إعلان

"بكون حرة" يُدشن أنشطة متحف الحضارة بنجاح لائق

أمل الجمل

"بكون حرة" يُدشن أنشطة متحف الحضارة بنجاح لائق

د. أمل الجمل
07:00 م الخميس 08 يوليه 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

سألتها: "رسمتِ بأصابعك حركة الطيران وأنتِ تصفين جمال وقوة شعورك أثناء العمل على الخزف، لكنكِ ترددتِ قليلًا في وصفه بأنه يمنحه الإحساس بالطيران، وعوضًا عنه قلتِ: "بكون حرة".. لماذا ترددتِ في قول "بحس إني طايرة"؟

تأملتني للحظات قبل أن تقول: "هي بكون حرة مش أدت المعنى؟"

كان سؤالي السابق موجهًا لفنانة الخزف هبة حلمي بمناسبة عرض الفيلم الذي يدور عنها بعنوان: "بكون حرة" من توقيع المخرج المصري الإيطالي، شريف فتحي سالم في أول عروضه، والذي أُفتتح به أنشطة المتحف القومي للحضارة المصرية تحت إشراف مدير المتحف أ.د أحمد غنيم، وبحضور عدد من المبدعين وعشاق الفن بينهم: "المايسترو نادر عباسي، مدير التصوير زكي عارف، السيناريست المخرج تامر محسن، المخرج عطية أمين، الإعلامية ريم ماجد، رئيس مجمع الفنون والثقافة د. أشرف رضا وآخرين"، وجميعهم قدموا مداخلات مبهجة عن الفيلم سواء داخل أو خارج قاعة العرض.

الحقيقة أن تردد بطلة الفيلم في الرد على سؤالي -أثناء إدارتي للندوة عقب عرض الفيلم- استدعى في ذهني تجربة للمخرج الروسي أندريه تاركوفسكي أثناء تصوير فيلمه: "أندريه روبلوف".. كان هناك مشهد يستعدون؛ لتصويره يُجسد الغزو ويُعبر عن حالة الفوضى. تم الاتفاق بين المخرج ومدير التصوير على كل التفاصيل بدقة، لكن فجأة أثناء دوران الكاميرا أمسك تاركوفسكي بمجموعة من طيور الأوز وألقى بها داخل الكادر من أعلي الكاميرا.

تلك الحركة المباغتة فاجأت مدير التصوير؛ لأنه لم يكن متفقًا عليها، مع ذلك واصل عمله. بعد انتهائه من التصوير سأل المخرج: "لماذا فعلت ذلك؟" فأجابه تاركوفسكي بصدقه المعهود: "مش عارف بالظبط ليه؟!.. لكن حسيت إن المشهد محتاج ده".

إذًا، الفنان الحقيقي يستند على إحساسه في المقام الأول، فقد لا يمتلك التفسير الواضح القوي -الآني-؛ لتبرير فعل ما، أو اختيار فني اتخذه، المهم أن شعوره هو المرشد الذي يقوده لذلك الاختيار، وهنا يكمن -جزئيًا- سحر وجاذبية الفنون.

في تقديري الشخصي أن فنانة الخزف المبدعة هبة حلمي -في جزء من الثانية- دار بداخلها حوار عقلاني عبقري جعلها تشعر أن تعبير: "بحس إني طايرة" ليس في قوة "بكون حرة"، الأول تُحيطه ظلال، فالطيران قد لا يكون دائمًا مرادفًا للحرية، ربما تصاحبه قيود أو مخاوف أو مطاردات، وربما تشوبه ملامح من توصيف السعادة الحسية الممزوجة بالسعادة الذهنية، لكن لفظ "الحرية" يتجرد من كل تلك الظلال.

أيضًا رد هبة السابق -وعدم تفسيرها للتفضيل- كان يصب في نفس مضمون الفيلم عن رحلتها في إبداع وإنتاج أي قطعة فنية، بدءًا من كونها حبات رملية من الطين الأسواني، وحتى لحظة خروجها من الفرن، إذ أكدت أكثر من مرة أنها عندما تبدأ العمل ربما لا تكون على يقين بالنتيجة، إنها تعتمد على التجريب أكثر خلال تلك العملية الإبداعية التي تبحث عن الابتكار والجديد، محاولة الاستفادة من المحيط، ومن كل شيء، حتى إذا انكسرت بعض القطع، فإنها تحاول التعامل مع هذا الكسر والاستفادة منه بأشكال جمالية، وهي فكرة تحمل في حد ذاتها تورية عظيمة للمقاومة وتحدي الظروف. كما أنها أحيانًا تعود للحضارة الفرعونية، تتأملها، تُضيف إليها من إبداعها وابتكارها أشياء، فتكون النتيجة قطعًا جديدة أصلية، وبالطبع هذا التجريب لا يخضع لكتالوجٍ ثابتٍ، لكنه يعتمد في الأساس على إحساس الفنانة التي تحمل روح طفلة بعيون مفتوحة على اتساعها أثناء رحلة بحثها عن الدهشة بشغف كبير.

الظريف أن مخرج الفيلم كان يتبع نفس الأسلوب التجريبي الذي يستند للإحساس، فلم يكن لديه سيناريو محدد قبل التصوير، صحيح أن شريف فتحي سالم فنان لديه خبرة طويلة في صناعة الوثائقي، والفيلم العابر للنوعية بقضايا متنوعة قد يدور أغلبها في إطار الموضوعات الاجتماعية التاريخية والسياسية والاقتصادية، لكنه أيضًا هنا يقدم تجربة غاية في الأهمية، تناقش فكرة الحرية من منظور مختلف أعمق وأشمل، وإن كانت المعالجة غير مباشرة فهي رغم بساطة الأسلوب والطرح، لكنها ترتكن للتورية والغموض الجميل الذي يشي به التصوير، وزوايا الكاميرا المتنوعة التي كان بعضها يمنحنا الشعور بقدر كبير من التماهي بين روح الفنانة، وبين الطبيعة المحيطة بها لدرجة التحليق في سماء الإبداع.

الموسيقى والمؤثرات بالفيلم لهما دورهما الوظيفي، فأغنية: "بحبك يا مصر" في المقدمة تؤكدها لقطات الفيلم التالية، كذلك توظيف آلة الهارب بعد حديث البطلة عن تأثرها بالحضارة الفرعونية. أما ما يخص السرد، فكان المخرج أحيانًا يستعين بصوت هبة فقط أثناء حكيها، فيوظف الصوت على لقطات بصرية من المحيط بدونها، أو بوضع لقطات لها أثناء قيادتها لعجلة الصلصال، أو أثناء ركوبها للدراجة في رحلتها بالمكان. لكن اللافت أنه عندما قالت جملتها التي دار من حولها سؤالي -بمقدمة المقال- أصر على استخدام تلك اللقطة بالصوت والصورة؛ ليتأكد أن المعنى قد وصل كاملًا للمتلقي.

يُميز الفيلم أنه محرض على الإبداع والمقاومة، على الاكتشاف والشغف بالحرية، على البحث المستمر، وعشق التجدد، على أهمية البحث الدائم عن الدهشة والتجريب. إنه فيلم عندما تشاهده -ورغم بساطته- سيمنحك شعورًا بالقوة والأمل.

المدهش خلال الندوة أن الجمهور تفاعل بشكل إيجابي جدًا مع الفيلم وصُناعه لدرجة أن الوقت لم يكفِ للإجابة عن كثير من التساؤلات، وتحدث بعضهم عن معني الحرية بدرجاتها التي يطرحها الفيلم، عن الإحساس بواقع المكان، فواخير مصر القديمة، جامع عمرو بن العاص بالفسطاط، كذلك المكان المقابل، حيث قرية تونس بالفيوم، عن الخزف، وكونه ممارسة ممتدة من اللا شيء للمحسوس، والتي يُصاحبها حوار مستمر قد يكون معقدًا لكنه لا ينتهي.

في حين تساءل البعض عن أهمية فن الخزف المصري، وموقعه على خارطة العالم؟ وهل له سوق خارجي؟ أم أنه يتعرض للاندثار؟ من زاوية أخرى طُرحت تساؤلات عديدة على المخرج عن الفيلم الوثائقي، ووضعيته في مصر مقارنة بالعالم، وهل يمكن أن يكون هذا المشروع بداية لسلسة أفلام تسجيلية عن الفن التشكيلي المعاصر في مصر، وهو ما أكد عليه شريف فتحي سالم بتفاؤل كبير.

وفي ختام الندوة صعد أ.د أحمد غنيم مؤكدًا على سعادته بافتتاح أنشطة المتحف بهذا النجاح، مقدمًا شكره للمنصة وللجمهور، وجميع أفراد فريقه في التنظيم المشرف، مختتمًا حديثه بوجود معرض خارج القاعة به عدد من إبداعات هبة حلمي، ثم أهدى ثلاثتنا -هبة وشريف وكاتبة هذه السطور- كتالوج: "المومياوات الملكية ومرقدها الأخير"، بقلم العلامة د. زاهي حواس ذلك الرجل، الذي يزداد شغفًا بالحضارة الفرعونية ودائمًا تراه متحدثًا لا يتخلى عن ألقه، ودهشته مع مرور الأيام والسنوات.

خرجنا من تلك الأمسية الدافئة بالفن وعن الفن ونحن في حالة بهجة، فلمحت عن يساري أمام باب الاستقبال أضواء قلعة محمد علي تعانق السماء ببنائها المميز الجميل، كأنها ونيس يحرس المومياوات في مرقدها الأخير.

إعلان