إعلان

تهافت خيار التصوف كبديل

د. أحمد عمر

تهافت خيار التصوف كبديل

د. أحمد عبدالعال عمر
08:05 م الأحد 20 يونيو 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

كلما استغرقت في قراءة سير حياة الصوفية الكبار، وما أبدعوه من شعر ونثر لوصف أشواقهم وأحوالهم ومقاماتهم، وتجاربهم الروحية، تأكد لي صدق ووحدة التجربة الصوفية باختلاف أشكالها وتجلياتها.

وتأكد لي أن اللغة الصوفية لغة مجازية، وهي وصف لحالات روحية وشعورية لا يمكن نقلها للآخرين بالكامل إلا على سبيل الرمز والتلميح دون التصريح، ولا يعلم معانيها الخفية إلا من أقترب وذاق وعرف.

ولذا يظل التصوف في يقيني الشخصي بعدًا مهمًا من أبعاد الوجود والفكر والتراث الديني والإنساني، بل هو البعد الأكثر سموًا وجمالًا وثراءً وإلهامًا، ولكنه يظل كذلك تجربة تعبدية شخصية، وفهما خاصا لعلاقة الإنسان مع الله، ودوافعها وغاياتها؛ وبالتالي لا يمكن نقل أدبياته وخبراته وقواعده بالكامل من الفضاء الخاص إلى المجال العام، ويجب أن يظل أغلبها في نطاق ضيق يخص الأتباع والمريدين، ويدخل في باب المضنون به على غير أهله.

وتأسيسًا على ذلك الفهم لطبيعة وخصوصية التجربة الصوفية، أرى أن محاولة بعض مراكز الفكر والدوائر توظيف التصوف سياسيًا، والتسويق له كبديل في المجتمعات الإسلامية للجماعات الدينية المتشددة، وجماعات الإسلام السياسي- هو محاولة محفوفة بالمخاطر على المجتمع والدين والدولة.

وهو خطر على المجتمع والدين والدولة، لأنه يفتح الباب للانقسام داخل المجتمع الواحد، والدين الواحد، ويستدعي ميراث العداء والخلاف بين الصوفية والفقهاء والمُحدثين في تاريخنا الإسلامي.

كما أن رفع شعار "التصوف هو الحل" في مواجهة شعار "الإسلام هو الحل" الذي رفعته جماعات الإسلام السياسي- هو اختلاق لأسطورة جديدة تجعل الدين في خدمة السياسة، وهذا توجه يُعادي قيم الحداثة والتنوير، ومفهوم الدولة الوطنية المدنية الحديثة، التي تفصل بين الدين (بوصفه علاقة خاصة بين الإنسان وربه) وبين السياسة وشئون الحكم والدولة.

وهذا التوجه أيضًا يجعلنا نعود للدائرة القديمة ذاتها التي صارت في بلادنا متاهة لا مخرج منها، وهي دائرة خلط الدين بالسياسية، وجعل الدين وقودًا يحترق لكي تدور عجلة السياسة، كما قال الراحل الدكتور نصر حامد أبو زيد.

وبعيدًا عن تلك الأسباب التي تجعلنا نرفض أسطورة "التصوف هو الحل"، وتقديم التصوف كبديل لجماعات الإسلام السياسي، والجماعات المتشددة دينيًا، فإن التصوف بطبيعته لا يصلح للانتقال من المجال الخاص إلى المجال العام؛ لأن التصوف تجربة روحية، وحالة شعورية، وليس وظيفة ورتبة اجتماعية، وطرق صوفية ودولة درويش ابتعدت كثيرًا عن حقيقة التصوف.

وهذا يعني أن التصوف في حقيقته رؤية للكون والحياة والإنسان، تتأسس على تجربة شخصية، ويصعب تعميمها ونقلها بموضوعية للآخرين، وجعلها ركيزة لوحدة المجتمع والنهضة والتقدم وصنع الحضارة.

وقد أكد على هذا المعنى المفكر السوري محمد ياسر شرف في كتابه "جارودي وسراب الحل الصوفي" الذي صدر عام 1982، وحاول فيه تفنيد أبعاد الحل الصوفي لمشاكل العالم الإسلامي خاصة، والعالم الإنساني عامة، وهو الحل الذي دعا إليه- بعد إعلان إسلامه- الفيلسوف الفرنسي "روجيه جارودي" وتبنته من بعده جهات كثيرة داخل وخارج العالم الإسلامي.

وقد ذكر الدكتور محمد ياسر شرف أن الحل الصوفي "سراب يحسبه الظمآن ماءً، فإذا اقترب منه أصبح أثرًا بعد عين"؛ لأن التصوف بحسب طبيعته وبنيته التكوينية غير قابل للتعميم، وغير صالح لتقديم حلول مجتمعية أو سياسية، وهو صالح فقط كحل فعال في حياة الإنسان الروحية والشخصية.

ولكل تلك الأسباب، أرى "تهافت" خيار تقديم التصوف كبديل لجماعات الإسلام السياسي، والجماعات المتشددة دينيًا في بلادنا؛ لأن البديل الصحيح هو تكريس حضور قيم الحداثة والتنوير التي تفصل بين الدين والسياسة، وتجعل الدين شأنًا خاصًا بين الإنسان وربه.

كما أن البديل الصحيح يكمن أيضًا في التأكيد بشكل عام على إنسانية الدين، وعلى فضائله الأخلاقية والاجتماعية، ثم تقديم فكر ديني جديد يوحد ولا يُفرق، ويسعى- كما قال الراحل الأستاذ خالد محمد خالد- "إلى وضع المفاهيم الحقة لكلمات السماء أمام عقل الشعب وقلبه، وإلى إبعاد الدين عن عبث العابثين، ولغُو المبطلين، حتى يفيء إليه الذين شردوا منه أو كادوا، وحتى يأنس الناس إليه في يقين وحب، ويتخذوا منه في رحلة الحياة رفيقًا وعضدا".

إعلان