إعلان

"أفاعي الرفاعي".. وآفة الجهل!

د. ياسر ثابت

"أفاعي الرفاعي".. وآفة الجهل!

د. ياسر ثابت
07:14 م الأربعاء 02 سبتمبر 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

"ماذا يقصد شيخي الليثي؟ أيقصد عجزي؟ أم تشي كلماته بتورطي؟ أتذكر بدايات القصة المشرقة ونهاياتها المفجعة؛ تركت الساحة الفسيحة المواجهة للطاحونة خلفي ومضيت أهذي، تزيد رعشتي رغم ملابسي الثقيلة، أهو شتاء مبكر في خريف سبتمبر أم هي برودة قلبي القاسي؟ آهٍ من التفاصيل؛ لا يكمن فيها شيطان بل شياطين! أمي، العنقاء، أبي، مصطفى، العهد، الرفاعي، عادل، نادية، الكفكفية، تغيير الجلد، أغسطس، الفحيح والكشيش، الطريشة، العصَّار، بيت الشامية، الذئاب، الأسرار، الأوراد، أمل، حبشي، عبودة، والبرهامية!» (ص 7- 8).

تجمع هذه الفقرة معظم الأبطال الرئيسيين في رواية "أفاعي الرفاعي" (دار الفؤاد، القاهرة، 2020) للروائي حسام الشحات، وهي رواية رمزية ونبوئية ماتعة لا تخلو من أجواء ديستوبية وكافكاوية.

تدور أحداث الرواية حول الطبيب "علي"، الذي تدور معه وبه أحداث الرواية، حيث يتعرض في البداية لأعراض غريبة غير مفهومة، ويتعلق بالرفاعية ويسعى للانضمام إليهم، وخلال ذلك يكشف الكثير من الخبايا، تتكشف على مدار الرواية شيئًا فشيئًا.

يقودنا الكاتب وبطله إلى ماضي قرية "كفر حكيم" وتاريخ أهلها مع جنس الأفاعي، الذي يهاجم قريتهم ولا يتوقف إلا حينما يعقد اتفاقـًا مع الرفاعية على عدم إيذاء أي منهم للآخر، نظير حصول الأفاعي على حصة من خيرات القرية من حيوانات وبيض... فهل يُعقل ذلك؟

تتوالى الصفحات؛ ليكتشف البطل مقتل المقربين منه بسبب الأفاعي، في حين تقف بعيدًا عنه ولا تؤذيه، من دون سبب مفهوم.

ورغم المساحة الصغيرة والظهور الخاطف بين الفينة والأخرى لشخصية "زيونية" (لاحظ تشابه الاسم بينها وبين كلمة "صهيونية")، فإنها تبدو العقل المدبر للدسائس والمؤامرات في كثير من المواقف. هذا الظهور القصير لشخصية "زيونية" يبعث برسالة مفادها أنها ليست أساس الرواية ولا هدف مؤلفها، وإنما مقصده وهدفه هو الكلام عن القارئ نفسه: هويته وذاته. فإذا عرف القارئ نفسه، لن يكون هناك أي مبرر لهيمنة "زيونية" أو سيطرتها على مقادير الأمور. فكل ما تقوم به هو استغلال مناخ الجهل، كي تفعل ما تشاء.

الجهل هو الذي خلق الأفاعي في "كفر حكيم". والتجاهل هو ما أتاح لها فرصة إثارة الرعب في هذه البلدة.

نقرأ في الرواية:

"تبدأ خيوط المصائب كلها عند عمي أو زيونية! وتنتهي إلى آبار عميقة مسمومة من الغدر والقهر، خطة محكمة بالغة الدهاء، التخطيط جهنمي من زيونية، والتمويل خليجي من أبوفهد، والتنفيذ مصري بيد عمي! الناس يدعون لهم ظنًا أنهم سبب الخير الذي جاء مع المعمل والمستشفى والمشغل والنادي ودار الأيتام، وإذا واجهت أحدهم:

- ألا ترى خراب البلد؟ قال:

- هم أفضل بالتأكيد من العمدة العاجز والرفاعي المغيب!

يملكون سجلات كاملة بكل أهل القرية وتفاصيل حالتهم الصحية وتقارير دقيقة بنتائج تحاليلهم، وهل يرفض أحدٌ الخدمات المجانية؟ إن لم تدفع ثمنًا مقابل سلعة فأنت السلعة"! (ص 172).

عبر سطور الرواية، يصادف القارئ عددًا كبيرًا من الحقائق والأساطير التي ربما يسمع عنها للمرة الأولى، مثل أسطورة قوس قزح (ص 140-141)، وحقيقة أقدم رواية في التاريخ (ص 91-92)، وعلاقة الأفاعي بكل ما سبق.

لا بدَّ من الإشادة بهذا الكم الكبير من المعلومات التي بذل الكاتب مجهودًا محمودًا لكي يجمعها ويضمها بين دفتي هذا المؤلف.

يأخذنا الطبيب "علي" في جولة داخل القرية والنفس البشرية التي تتأرجح بين الخير والشر في امتزاج غريب هو الإنسان نفسه الذي يملك بداخله النقيضين ويسعى جاهدًا؛ لتغليب أحدهما على الآخر.

قطع من الأحجية عبارة عن أجزاء من صورة غير مرتبة تتراكم على مدار صفحات الرواية، وتحاول ترتيبها حتى تحصل على مفاتيح اللغز.

في البداية قد تظن أنها رواية تتحدث عن الأفاعي والرفاعية، ولكن مع التوغل فيها تدرك أنها تتحدث عنا جميعـًا بكل طوائفنا، بين ظهرانينا يوجد الأمشاطي الكبير ومصطفى والإمام الليث والرفاعي الكبير، كما يوجد بيننا زيونية ومنصور وممدوح، وبيننا من هو مغلوب على أمره أو قرر الاستسلام للشر مثل عصام والعم، وأيضـًا هناك الأفاعي والذئاب الذين يحيطون بنا.

وهناك قهوة إسماعيل، الرمز الحي لانتشار الشائعات والمخدرات؛ لتكون رمزًا ومعقلًا للفساد.

وهناك تلك البلدة التي تكالبت عليها الأفاعي لسرقة كنوزها وآثارها ومائها.

الرواية مليئة بالأفاعي التي تعيش بيننا، بل تحاول أن تنال منا بالحيلة والغدر.

في البدء يخدعك الكاتب بالقول إنها رواية خيالية فانتازية، فالحيوانات لا تتحدث بلغة مفهومة للبشر إلا مع نبي الله سليمان، ويزعم البعض قدرتهم على الحديث مع الأفاعي، لكنك في كل سطر، وبينما تلتهم عيناك السطور التهامـًا تكتشف أن ما تقرأه عين الحقيقة، وأن الأفاعي تسعى بيننا من دون أن ندري. تطوي الأسطر والصفحات لتعرف ماذا فعل "علي".. وماذا فُعل به.. تتألم معه وتتساءل مثله عن سر الأفاعي والرفاعية.

تغوص في دهاليز أفكار الأبطال محاولًا ربطها؛ لتكتشف أن الرواية تستحق القراءة أكثر من مرة، وفي كل مرة ستكتشف المزيد.

وتبقى الحكمة الأثيرة لدى قارئ الرواية:

"إذا لم تدفع في مقابل سلعة، فأنت السلعة».

تتجلى في الرواية عبقرية الإسقاط من العالم الافتراضي على الواقع المعاصر؛ ويبدو أن كل روايات حسام الشحات بدءًا من "كفر الجيوشي" و"ألعاب خطرة" و"أخي أكرم" وانتهاء برواية "أفاعي الرفاعي" تهتم بالترميز للحديث والإسقاط على واقعنا المعاصر. تعتبر "أفاعي الرفاعي" تأريخـًا لحقبة تاريخية بدءًا من مرحلة التغريب في المجتمعات العربية والتبعية المقيتة لأفاعي الغرب الرؤوس منها والذيول والانسياق خلفهم مع تغييب الوعي العام الجمعي حتى وصلنا إلى هذا التشتت والتشرذم والتناحر.

"زيونية" هي ذيل الأفعى الزرقاء الرقطاء، و"الرفاعية» هم العرب، و"علي" هو الكنز الاستراتيجي لهم؛ لذا فإنهم لا يقتربون منه ولا يمسونه بأي نوع من أنواع الأذى.

هنا تكمن العبقرية في الرمزية والإسقاط والأسلوب وذكاء اللغة وسلاستها وتطويعها مع الأحداث، وذكاء استخدام الأسماء. كل هذا أخرج لنا لوحةً فنية حية أو شريطـًا سينمائيـًا واقعيـًا حيـًا ينبض بالحياة لحقبة تاريخية أشبه بالموات لأمتنا ليدق أجراس الخطر ويوقظ الوعي المخدر لكي يتنبه للخطر الذي يحيق بنا نحن العرب.

إعلان