إعلان

علاج جذور

أمينة خيري

علاج جذور

أمينة خيري
08:09 م الإثنين 18 مايو 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

نفتقد كثيراً الأخلاق الحميدة، ونحتاج بشدة لزمن كان الناس فيه أكثر التزاماً ببدهيات السلوكيات القويمة.

ولعل الجملة الأكثر تداولاً بين المصريين في العصر الحديث هي: "الأخلاق انعدمت".

صحيح أن فيها بعضاً من مبالغة، فما زال بيننا من هو على خلق، بل إن بيننا كثيرين يكشفون عن محتوى أخلاقي جيد يظهر في أوقات الشدة والأزمات، لكننا في أزمة أخلاقية حقيقية

حقيقةً، الأزمة يرفض كثيرون الاعتراف بها، وإن اعترفوا بها أرجعوها دائماً إلى أن هناك البعض "بعيد عن الدين".

وهذه عبارة مطاطة جداً، وهي ترتبط ارتباطاً مباشراً بمفهوم التدين في مصر المعاصرة.

اسأل عشرة أشخاص من مستويات وفئات مختلفة: ما هو التدين؟ وستأتيك إجابات معروفة مسبقاً: "أراعي ربنا، أصلي وأصوم، أحافظ على أهل بيتي من النساء، لا أسرق، أتبع ما ورد في القرآن والسنة (أو الإنجيل)، لا أقيم علاقة إلا في إطار الزواج، أربي ولادي كويس، أتحجب، أدافع عن ديني أمام أعداء الله، ألتزم بالأخلاق".

أغلب الظن أن الإجابات لن تخرج عن هذا الإطار، وإن خرجت فهي تعود مسرعة برداء أو عبارة دينية أخرى تقودنا إلى المعاني المطاطية غير الواضحة مجدداً.

يعني مثلاً، حين تشير الغالبية إلى مكون "الحفاظ على أهل بيتي من النساء" والمقصود به الأم والأخت والابنة والزوجة... إلخ، فمن الذي يتحرش ببقية النساء إذن في الشوارع؟!

وحين تنظر الغالبية إلى الصلاة والصوم باعتبارها التدين الحق، فهل يفسر ذلك تقاعس البعض من المصلين والصائمين عن أداء عملهم أو احترام حقوق غيرهم في السكن أو المواصلات العامة أو حماية صحتهم مثلا على اعتبار أن الصلاة والصوم يكفيان؟!

وهل مفهوم الامتناع عن السرقة يتوقف عند حدود عدم مد اليد في جيب الآخرين، أم يمتد كذلك لعدم ابتلاع ميراث الآخرين أو الاعتداء على رصيف الشارع أو حرمه أو الاعتماد على التيار الكهربائي من أعمدة الإنارة أو شراء الأبحاث المطلوبة في نهاية العام... إلخ؟

وما هو مفهوم الدفاع عن الدين أمام أعداء الله الذي نردده كثيراً دون شرح للمحتوى؟

وهل، مثلاً، لوم من يترحم على وفاة ممثل ينتمي إلى دين غير الإسلام أو الدعاء لطبيب غير مسلم يشفي قلوب الملايين أمور تندرج تحت بند "الدفاع عن الدين"، أم أنها في حقيقة الأمر تندرج تحت بند تشويه الدين، والإمعان في نشر سموم النسخة الحديثة من التدين؛ حيث الآخر كافر ينبغي قتاله، إما بمقاطعته أو بمنعه من تأدية صلاته أو بقتله؟

وعلى سيرة القتل، لماذا لا نملأ الدينا صخباً باعتبار من قتل أو عرض أحدهم للقتل بسبب سير عكسي أو قيادة جنونية - عدواً لله والدين والمتدينين؟

المتدينون الجدد نشأوا، وترعرعوا في زمن فصل مفهوم الأخلاق عن الدين. وليس أدل على ذلك من أن أحدهم ممن هاج وماج، حين تساءلت إن كان السير العكسي حراما شرعاً، باغتني بإجابة بليغة قوامها: "وإيه اللي دخل العربيات والقيادة في الدين"؟!

الآن أرى، وأسمع من بدأ يلوح بأن "التيك توك" حرام شرعاً؛ لأنه يسمح لفتيات مثل مودة الأدهم وحنين حسام بنشر الفسق والفجور.

وأقرأ اتهامات الاعتداء على مبادئ وقيم أسرية في المجتمع المصري توجه لأمثالهما، مع العلم أن إحداهما محجبة!

ألا يتوجب علينا أن نترفق بأنفسنا قليلاً، ونحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه بقليل من المواجهة وكثير من الشفافية؟!

ألم يحن الوقت للتعامل مع مفهوم الأخلاق المفتقدة بطريقة أكثر واقعية، دون الانغماس في مزيد من الهروب عبر ادعاء التدين الشديد؟

هل نفد مخزون الأفكار للتعامل مع الانفلات الأخلاقي، فلم يتبقَّ سوى "شرطة الأخلاق الحميدة" وجماعات الأمر بالمعروف المجتمعية التي تعلق شماعات فشلها في التربية والتقويم والتعليم وغرس الأخلاق ومفهوم العيب والصح والخطأ على أكتاف التيك توك وفتياته؟

ولماذا لم يتقدم أحدهم ببلاغ للقبض على من يمنع الترحم على موتى غير المسلمين؛ باعتباره يقوض وحدة الأمة ويدس الفتنة؟

ولماذا لا يطالب الحنجوريون بمنع توجيه أسئلة الفتاوى المتمحورة حول:

هل يجوز ضرب زوجتي؟ هل تجوز التبرع لمريض مسيحي؟ هل يجوز الزواج العرفي مع وجود شهود لليلة واحدة دون أن أخبر زوجتي؟

نحن نحتاج علاج جذور بعد خلع العصب المعطوب، وإلا سنستمر في الضحك على أنفسنا.

إعلان