إعلان

سجال الحداثة والتراث وإشكاليات خطابنا الثقافي (1 - 3)

طارق أبو العينين

سجال الحداثة والتراث وإشكاليات خطابنا الثقافي (1 - 3)

طارق أبو العينين
07:49 م الأحد 09 فبراير 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع


أظن أن الوقت قد أصبح مناسباً لمناقشة العلاقة الإشكالية بين الحداثة والتراث بشكل عقلاني ومنهجي، بعيداً عن المزايدات والمواقف المتشنجة، بعد أن هدأت عاصفة السجال الفكري الذى حدث بين شيخ الأزهر ورئيس جامعة القاهرة، خلال مؤتمر الأزهر لتجديد الفكر الإسلامي، خصوصاً أن هذا السجال بين الشيخ أحمد الطيب، والدكتور محمد عثمان الخشت قد تطرق من حسن الحظ إلى ثلاث قضايا مهمة تُعد بمثابة بنود تأسيسية في سجال الحداثة والتراث/ وهى قضايا كانت- ولاتزال- ذات طبيعة إشكالية داخل الوسط الثقافي نفسة، ومن ثم فهي تتجاوز في اعتقادي تلك العلاقة المرتبكة بين المثقفين وعلماء الدين بشأن مفهوم الحداثة وعلاقته بمسألة تجديد الخطاب الديني.

القضية الأولى التي سوف نستعرضها بالتفصيل في هذا المقال تتعلق بافتراض المثقف الحداثي العربي بحتمية القطيعة المعرفية مع التراث الإسلامي كشرط لازم وضروري لانتقال المجتمعات العربية والإسلامية إلى مرحلة الحداثة، وهو ما أشار إليه صراحة الدكتور الخشت خلال كلمته في المؤتمر، عندما شبه التراث الإسلامي ببيت الأب القديم الذي يجب أن نغادره ونبني بناءً جديدًا.
فهذا الافتراض سبق أن قدمة الدكتور طه حسين- رحمه الله- في كتابه الشهير والمثير للجدل "مستقبل الثقافة في مصر"، عندما ربط صراحة، وبشكل لا لبس فيه بين عملية بناء دولة وطنية حديثة، وضرورة تخلي مصر عن جذورها الثقافية والحضارية الشرقية، ومن ثم فقد وضع طه حسين تصوراً لمشروع ثقافي ينفي ارتباط مصر بأصولها الشرقية، ويؤكد ارتباطها بالمشروع الحضاري الغربي؛ بوصفها دولة من دول حوض البحر الأبيض المتوسط، وهو ما عاد ليؤكده من جديد - وإن اختلف أسلوب الطرح - المفكر المغربي المعاصر عبد الله العروي الذي يُعد أكثر المفكرين العرب المعاصرين إلحاحاً على حتمية إحداث تلك القطيعة المعرفية مع التراث العربي والإسلامي.

وقد اتسم العروي بجرأة غير مسبوقة؛ من خلال طرحة مسألة القطيعة مع التراث طرحاً صريحاً، فقد قامت دعواه لا على ضرورة إجراء تلك القطيعة وحسب، وإنما على ضرورة الحسم في هذه القطيعة ورفض كل ما هو تقليدي في كل النواحي.

ولعل ما يلفت انتباه كاتب هذه السطور - بعيداً عن الشعارات الدينية، وفي ضوء الخطاب الثقافي الغربي والعربي نفسه - أن التراث الديني لم يشكل مأزقاً يستدعي حتمية القطيعة معه إلا في مخيلة المثقف الحداثي العربي فقط؛ فقد قدم المثقف الحداثي الغربي بالفعل نموذجاً مغايراً تماماً للتعاطي مع التراث الديني، فبحسب ما طرح الشاعر والناقد البريطاني ت. س. إليوت، أحد رواد الحداثة الشعرية، في كتابه المهم "ملاحظات نحو تعريف الثقافة"، فإن ثقافة أوروبا لم تكن لتبقى حية إذا اختفى الإيمان المسيحي؛ فالمثقف الغربي مدين للتراث المسيحي بتتبع تطور الفنون وتلقي مفاهيم القانون الروماني ومفاهيم الأخلاق العامة والخاصة، ولذلك فقد أكد إليوت في كتابه بأنه إذا اختفت المسيحية، فستذهب كل ثقافة أوروبا التي لن تستطيع أن تلبس ثقافة جديدة جاهزة، بل عليها أن تبدأ البداية المؤلمة من جديد.
ولعل ما طرحه ت. س. إليوت يلفت انتباهنا إلى نقطة في غاية الأهمية، وهي أن المشروع الثقافي لأي أمة من الأمم عادة ما يأخذ شكل متوالية تاريخية، ومن ثم، فلا يمكن أن تشكل القطيعة مع أي مرحلة من مراحله إلا تهديداً للمشروع ككل.

كما أن محاولة إلباس أي أمة ثقافة جديدة جاهزة هي محاولة غير ممكنة من الناحية الموضوعية، وهذا هو مكمن الخطورة في دعوة الحداثيين العرب للقطيعة المعرفية مع التراث؛ فهذا الموقف المتشدد إزاء التراث قد كرّس بالفعل لما أطلق عليه الناقد المصري الراحل الدكتور عبد العزيز حمودة ثقافة الشرخ الناجمة، كما يقول في كتابه المهم "المرايا المقعرة" عن خطأ الحداثيين العرب، حينما حولوا صفقة التحديث إلى صفقة ثقافية وحضارية شاملة، فبدلاً من الانتقاء من ثمرات الحضارة الغربية، ارتمى المثقف العربي في أحضان الآخر رابطاً بين التحديث وإدارة ظهره بالكامل لمنجزات العقل العربي، تحت شعار القطيعة المعرفية مع التراث، وهو ما ولّد لدى المثقف العربي الشعور بالانبهار بالعقل الغربي واحتقار العقل العربي، وأدى - من وجهة نظر كاتب هذه السطور - إلى اتجاه الخطاب الحداثي إلى التهوين من شأن العقل العربي واتهامه بأنه عقل مشبع بأفكار ميتافيزيقية (غيبية) مطلقة تفرضها عليه الثقافة العربية، مما أفقده أهم مقومات الحداثة، ولذلك سوف تكون قضية علاقة النسبي بالمطلق هي محور مقالنا القادم - بإذن الله.

إعلان