إعلان

«ماتادوري المذعور».. امرأة مرهفة الحس في جسد رجل

د. أمــل الجمل

«ماتادوري المذعور».. امرأة مرهفة الحس في جسد رجل

د. أمل الجمل
07:00 م الإثنين 16 نوفمبر 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يلتقيان في لحظة هروب، يكتنفها الذعر والصدفة بأحد شوارع سانتياجو، قُبيل محاولة الانقلاب على الدكتاتور التشيلي بينوشيه عام ١٩٨٦. في تلك اللحظة من الزمن تلتقي المثلية الجنسية بالنضال السياسي. مزيج رومانسي كوميدي نادر المثال. يُعبر عن الثورة من جوانب متناقضة، عبر العلاقة الإنسانية القوية والعاطفة العميقة بين ماتادور، رجلٌ خمسيني ذو ميول مثلية، وبين وكارلوس، شاب ثلاثيني ثائر ومناضل سياسي، وذلك ضمن أحداث الفيلم التشيلي «ماتادوري المذعور».

كان بطل الفيلم هو السبب الرئيسَ وراء اختياري الفيلم ومشاهدته من بين أفلام أخرى عديدة رائعة عُرضت بمهرجان الجونة السينمائي في دورته الرابعة. البطل الذي جسد الشخصية الرئيسية هو ألفريد كاسترو. لماذا؟ لأني شاهدت قبل ذلك فيلماً آخر من بطولته، والذي قام فيه بشخصية رجل مثلي الجنسية أيضاً، وذلك أثناء مهرجان فينيسيا السينمائي عام ٢٠١٥ بعنوان «من بعيد».

أشكال للمثلية والإنسانية

بهذا الفيلم الجديد «ماتادوري المذعور» يقوم ألفريد أيضاً بدور شخص مثليّ الجنسية. لكن شتان ما بين الشخصيتين والدورين؛ فالأول رجل يعمل في صناعة وتركيب الأسنان الصناعية، عانى من اعتداء والده عليه جنسياً في الطفولة، فنجم عنه أزمة نفسية عميقة جعلته يُدمن إقامة علاقات شاذة.

إنه رجل صارم جامد، قليل الكلام جداً، يتصرف بحزم شديد، لكن من دون قسوة، يبحث عن الشباب المراهقين في الشوارع، يختارهم، وفقط يطلب منهم التعري لتأمل أجسادهم من مسافة بعيدة في ذات الغرفة حتى ينتهي من إشباع رغبته، والفيلم لا يخلو من عنف وعنف مضاد في بعض أجزائه، وإن كان الاهتمام فيه ينصب على سبر أغوار الجانب النفسي للبطل ومنبع أزمته وشذوذه، والمدهش أنه برغم مشاعره المتناقضة تجاه والده، لكنه يرفض أذيته، أو قتله.

بعد أقل من خمس سنوات من أداء شخصيته بفيلم «من بعيد» يعود ألفريد كاسترو لأداء شخصية الرجل المثلي بفيلم «ماتادوري المذعور»، لكن هذه المرة يتقمص هذا الممثل القدير شخصية امرأة، أو بالأحرى شخصية رجل وجد نفسه وراحته السيكولوجية في التحول لامرأة فيرتدي ملابسها، ويعيش حياتها بكل حيوية ورقة، ومرح لا يخلو من الخوف والحزن أيضا.

المُدهش هنا يتجلى في قدرة ألفريد على تقمص روح وجسد المرأة وإيماءاتها لدرجة أننا في لحظات عديدة نكاد ننسى هويته الأصلية وكونه رجلاً. وهو ما يذكرنا بمسرح الكابوكي الياباني الذي كان يقوم الرجال فيه بتقمص وتمثيل شخصيات النساء، وإتقان أدق تفاصيلها بشكل أكثر مهارة من النساء أحياناً.

هنا- بفيلم «ماتادوري المذعور»- نجد الإيماءات واللغة الجسدية لألفريد كاسترو نسوية بامتياز مثل نظرات العيون بلفتاتها، واختياره درجة ميل لوضعية الرأس التي تميز بعض النساء من الطبقة الوسطى، وحركة الأيدي والأصابع، والتفاتات الكتفين التي تعبر عن لحظات الغضب أو عدم الرضا، أو الدلال أحياناً، والتي تميز بعض النساء من المناطق الشعبية، والتنقل بين حالات الفرح والسعادة المفاجئة، وتبدل مزاجه بليونة ويُسر مُدهشين في صدقيته.

صحيح أن فيلم «ماتادوري المذعور» مقتبس عن رواية شهيرة لاقت نجاحاً مدوياً، ورغم أهمية وبراعة السيناريو في الاهتمام بكافة تفاصيل الشخصيات- وعلى الأخص الشخصية الرئيسة- مع ذلك يظل نجاح هذا الفيلم مرهوناً بأداء ألفريد كاسترو كأنه يحمل العمل بأكمله فوق كتفيه.

أنا المصارع المذعور

تبدأ أحداث الفيلم بالغناء والرقص في ملهى ليلي للشواذ، في أثناء لحظة انقضاض البوليس على رواد المكان، وقتل بعض أفراده، وهروب البطل الذي يساعده في الاختفاء من البوليس مناضل يساري كان يتسكع في الأجواء اسمه كارلوس.

يقترب الاثنان من بعضهما في لحظة إنسانية مُلغمة بالخوف. يسأله كارلوس عن اسمه، فيعلن البطل أنه لا يحمل اسما. لاحقاً يتكرر اللقاء بين الهاربين، وتبدو الرغبة قوية في تكراره مرات عدة. عندما يفكران في أوقات الخطر وكيفية التعامل معها، يتم الاتفاق على كلمة السر tengo miedo torero . إنها عنوان أغنية تشيلية تعني «أنا مصارع الثيران المذعور».I'm scared bullfighter

توظيف الأغنية كعنوان للفيلم يُضفي دلالات شتى على المضمون، وكذلك على الشخصية الرئيسة؛ دلالات بعضها متناقض تماماً. فالبطل ذاته هو مَنْ اختار لنفسه- في لحظة مفعمة بالسخرية الظريفة- هذا اللقب «مصارع الثيران المذعور»، إنه نفسه يعترف في لحظة ما بالفيلم أنه يخشى الخروج من البيت نهاراً، ويخشى سماع الأخبار السياسية وما بها من ثورة ومظاهرات وقتلى، إنه يشعر بأنه لا ينتمي لهؤلاء الثوار، ولا يجدهم يعبرون عنه، ولذلك يُفضل البقاء في بيته المتهدم الذي استأجره عقب زلزال ١٩٨٥، مثلما يطمئن هذا المذعور عندما يستمع للأغاني عوضاً عن ما دون ذلك.

جرأة الذعر

لكن المفاجأة أن هذا المصارع المذعور- الذي يعمل في تطريز المفارش لبعض الشخصيات السياسية الهامة، وأغنياء القوم- يفاجئنا بتصرفات غاية في الجرأة عندما يقع في الحب، تصرفات تعرضه للخطر، لكنه يقوم بها من دون تردد لحماية مَنْ يُحب.

الموقف الأول نعايشه عندما يوافق «ماتادور» على استمرار تخزين صناديق الكتب التي أحضرها حبيبه كارلوس، والتي نكتشف معها لاحقاً أنها تحتوي على ذخيرة وبارود يستخدمها الثوار ضد النظام الحاكم الدكتاتور وحاشيته.

أما الخطوة الأكثر جرأة وشجاعة - حتى إنها تتفوق على شجاعة الثوار أنفسهم- فعندما يستيقظ كارلوس ذات صباح- بعد سهرهما سوياً وتناولهما كثيرا من الكحول- ليتذكر فجأة أنه تأخر عن موعد تسليم قطع الأسلحة للمقاومة، كاد رأسه ينفجر من الصداع، الخوف والقلق أصاباه برجفة واضحة، كان غير قادر على حفظ توازنه، فظل يتمايل بشكل ملحوظ. هنا يقرر «ماتادور» توصيل الأسلحة بنفسه بدلاً من حبيبه.

يحمل المصارع المذعور حقيبة يد حمراء أنثوية، يعلقها في ذراعه، بداخلها ترقد الأسلحة، يضمها إلى صدره في حركة أنثوية بامتياز، يتحرك بين المتظاهرين. عندما يُواجه البوليس حشود المتظاهرين ويسد أمامهم الشارع يرقد الجميع على الأرض في حركة استسلام خوفاً من إطلاق الرصاص عليهم. عندئذ نرى «ماتادور»- المصارع المذعور- هو الوحيد الذي لا يزال واقفاً بين المتظاهرين، يتلفت يمينا ويسارا، للخلف والأمام قبل أن يواصل بهدوء شق طريقه بين الأجسام الممددة على الأرض إلى أن يجتاز رجال البوليس بسلام، وعلى الجانب الآخر من الشارع يُنهي مهمته، في هدوء وبساطة وإقناع.

جوانب للثورة

أهمية الفيلم أنه لا يقدم فقط الثورة على الدكتاتور، ولكنه يكشف بوضوح أن هذه الثورة عندما تنجح لن تكون في صالح جميع التشيليين، وستظل طبقة أخرى من الشعب تُعاني من دكتاتورية جديدة.

إنه يكشف بوضوح جمود هؤلاء الثوريين، وتكلسهم، كاشفاً الجانب الدكتاتوري في شخصياتهم، فرغم أنهم ثائرون على ظلم وفساد النظام السياسي، لكنهم خاضعون للنظرة التقليدية للمجتمع التي تنظر باحتقار وازدراء للشخصيات المثلية، وتُعاملها بإهانة شديدة، رغم أن هؤلاء المثليين قد لا يكونون أقل وطنية وثورية عن هؤلاء السياسيين، بل قد يلعبون دوراً جريئاً ومهما في تحقيق أهدافهم السياسية والوطنية.

هنا يجعلنا الفيلم نُعيد التساؤل حول مفهوم الثورة وجوانبها؛ فهل الثورة تقتصر على الفساد السياسي، وعلى الدكتاتورية والاستبداد الفاشي؟

وإن صح ذلك، فماذا، إذن، عن الدكتاتورية التي تُكبل الحريات الشخصية، وتُصنف الناس وتنبذهم بناء على ميولهم وتوجهاتهم وأحلامهم؟!

إعلان