إعلان

نجوم التنوير الزائف

د. أحمد عمر

نجوم التنوير الزائف

د. أحمد عبدالعال عمر
09:00 م الأحد 28 يوليو 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

"ليست رسالة المفكر افتعالَ التجديد، والتكسبَ باسمه كما تفعل بنات الليل. ولكن ممارسة التجديد عن وعي وفي صمت، دون فرقعة فكرية كأنه نجم سينمائي يودّ الإعلان عن نفسه".

هكذا تحدث الأستاذ الدكتور حسن حنفي في مقال له بعنوان "رسالة المفكر" نُشر بمجلة الكاتب عام 1971، وأعاد نشره بعد ذلك في كتابه "في فكرنا المعاصر".

وقد تذكرت هذه المقولة وأنا أتابع حضور نجوم التنوير الجدد وأداءهم، عبر الفضائيات، ومعاركهم الصفرية التي يثيرونها في برامجهم، بتناولهم موضوعات وقضايا شائكة في تراثنا بسطحية شديدة، ودون معالجة متعمقة لها من جميع أبعادها، وبشكل يثير الشكوك، ويروّج لاحتقار تراثنا وماضينا.

وهؤلاء هم نجوم التنوير الزائف والمغلوط، ومصيرهم سوف يكون هو ذاته مصير أسلافهم من التنويريين القدماء الذين حرثوا في الماء، وزرعوا في الرمال، وفشلت خطاباتهم ودعواتهم في التفاعل مع الواقع والتأثير فيه على نحو إيجابي.

وهنا لا بد من البحث عن أسباب فشل خطاب التنوير في بلادنا- عبر قرنين من الزمان- في إحداث تغيير في بنية الفكر والمجتمعات العربية، لعل نجوم التنوير الزائف الجدد، يستفيدون من أسباب فشل أسلافهم.

وفي حقيقة الأمر، فقد تعددت الكتابات التي تناولت "محنة التنوير" في عالمنا العربي وأسباب فشله، وأرجعتها في مُجملها إلى خلل في بنية خطابات التنوير، وعدم أصالتها، وعدم ارتباطها بواقعنا وتجربتنا الذاتية، واستلهمها بالكامل للتجربة الغربية، واستعارتها لمفاهيمها.

وقد نقد الراحل الدكتور جلال أمين في كتابه "التنوير الزائف" فكرة التحديث من خلال تقليد الغرب، وعاب على رواد التنوير العرب تبنيهم شعارات التنوير الغربي ومفاهيمه، حتى رأينا في العقدين الأخيرين من القرن العشرين في مصر كتابات تسير في طريق معاداة الدين والاستهانة به، وتتناول المقدسات بالنقد والتجريح، بهدف ضمان احتفاء الإعلام والمؤسسات الغربية بها.

أما الدكتور حسن حنفي، فقد رأى أن رواد النهضة الأوائل، مثل رفاعة الطهطاوي، ومحمد عبده، وأحمد فارس الشدياق، وعثمان أمين- لم ينقلوا كتابات فلاسفة التنوير الغربيين للترويج لثقافة الآخر، بل أعادوا بناءها لصالحهم، وبرهنوا عليها من تراثهم الخاص.

ولكن تبِع هؤلاءِ المجددين الأصلاءَ جيلٌ من التنويريين العرب المغتربين الذين نقلوا أفكار فلاسفة التنوير الغربيين، بلا هدف واضح، ودون الدعوة إلى إعادة بناء تراثنا القديم، وكأنهم يعتقدون أن جذور نهضتنا يمكن أن ترتد إلى تراث الغرب. ولهذا رفضهم الواقع والناس، كما رفضتهم التيارات الدينية الأصولية التي عادت إلى التراث القديم، وحاولت إحياء التراث، كما هو بلا تجديد أو تنوير.

أما الراحل الدكتور محمد عابد الجابري، فقد رأى أن قادة التنوير العرب قد تبنوا مقولات فلاسفة التنوير الغربي في أوروبا، وحاولوا زرعها في العالم العربي، مع أن التنوير يجب أن يتم من الداخل؛ لأن ما يأتي من الخارج لا معنى له إلا لمن يستطيع أن ينقل نفسه إلى داخل هذا الخارج.

وبهذا يؤكد الراحل الدكتور محمد عابد الجابري أن التنوير الحقيقي يجب أن يبدأ من الداخل عبر إعادة بناء التراث القديم، وفتح المجال لإعمال العقل، وإزالة السلطات التي تُقيده.

وإجمالاً يمكن القول إن هناك رؤيةً تكتسب وجاهتها من التجربة والواقع تؤكد، على أن خطاب التنوير العربي قد فشل، وأن من أهم أسباب فشله عجز أصحابه عن التعامل الإيجابي مع التراث، ولهذا احتقروه وعادوه، وأحدثوا قطيعة شبه كاملة معه، وكان الأجدر بهم أن يشعروا باحترام تجاهه، لأنه ميراث الأمة، ثم يعيدون تجديد هذا التراث ليتناسب مع مقتضيات العصر.

وهذا الخطأ الذي ارتكبه أغلب التنويريين القدماء هو ذاته الذي يرتكبه التنويريون الجدد من نجوم الفضائيات، وإن كان هؤلاء بالطبع أقل من أسلافهم القدماء علمًا ورصانة، وأكثر منهم زيفًا وتدليسًا وبحثاً عن الشهرة.

ولهذا، فقد أصبحت الحاجة ملحة اليوم لظهور تيار تنويري جديد يتسم أصحابه بالواقعية والفهم العميق لتراث وخصوصية المجتمعات العربية. ويمكن أن تكون مهام هذا التيار الجديد الأولية محددة في النقاط التالية:

- مراجعة خطابات التنوير السابقة لمعرفة جوانب القصور فيها ونقدها، ومعرفة جوانبها الإيجابية غير القابلة للنقض والهدم، واستكمال البناء عليها.

- نقد وتجديد التراث والخطاب الديني، والتأسيس لوعي وطني وإسلامي وإنساني جديد، مع احترام ثوابت الدين والأمة التي يجب أن تظل فوق النقد، ناهيك من التطاول والتجريح.

- مد جسور التواصل مع السلطة لضمان دعم السلطة الحاكمة لخطابهم، واستخدامها لمؤسسات الدولة في نشره وتفعيله.

- مد جسور التواصل مع الناس بمختلف طبقاتهم وثقافتهم، وعدم الاستعلاء عليهم، واحترام معتقداتهم، لضمان تفاعل الجماهير مع خطاب التنوير وأصحابه.

وأظن أن تلك الرؤية والمنهجية الجديدة يمكنها إحداث تنوير حقيقي نابع من تجربتنا واحتياجاتنا، وبالتالي تخليص الإسلام من الأسر وسوء الفهم، وإعادة دوره الإنساني والحضاري، والمساعدة في تجاوز أزمته الراهنة التي تسبب فيها جهل أتباعه ومؤامرات أعدائه.

إعلان