إعلان

أن تكون طفلا "عبقريًا"..

د. هشام عطية عبد المقصود

أن تكون طفلا "عبقريًا"..

د. هشام عطية عبد المقصود
09:00 م الجمعة 19 أبريل 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

صغار في العمر، يحملون ثقلهم وهم يمضون وفق خرائط التوجيه الأسرية إلى حيث تحقيق ما لم يقدر عليه الأوائل، والأوائل هنا هما أب وأم، كان أحدهما أو كلاهما في يوم بعيد مضى يحلم ويتوقع وينتظر تحققا في دور ما إنساني أو مادي أو وظيفي، فمنحته الحياة نصيبه الذي ربما لم يمنحه ما رغب، فظل يحمل بعضًا من أمل معاودة ما فات، وملاحقة ما آمل يوما ليجد ضالته في ابنه أو ابنته يضع على عاتقه إنجاز حلمه التاريخي، وحيث تصنع وسائل الإعلام وعبر تكرار صورها عن المشاهير وحياتهم تذكيرا بالحلم وتكريسا متزامنا لفكرة الإخفاق القديم فتنشأ الفكرة وتتحول إلى تطبيق مجحف موضوعه الصغار، وهكذا تتشكل وتتسع دائرة ما يعرفه المجتمع بمسمى السعي لدخول دائرة "الأفذاذ الصغار" المشهورين، والتي يتم منحها رتوشا نمطية عن التفوق الباهر والتميز الخارق وما يرتبط بهما ويترتب بالضرورة عليهما من حضور وشهرة وربما رجاء في ثروة، ناسين أن إدخال الأطفال في عمر مبكر أي مثل هذه الأشياء هو جميعه أو أكثره صار في عرف نظم التعليم والتنشئة المعاصرة إرثًا تاريخيًا، وربما هو مسؤول بإلحاحه وتحميله لصغار في العمر عن مشكلات إنسانية لن تداويها الأيام، ليمضي بها الأطفال وهم يكبرون، فلا تعالجها نجاحات كبيرة ولا تصنع التئامات عمق حضورها كلمات وصور وحفاوات.

أطفال يحملون أحلام آباء وأمهات مجهضة أو غائبة فيسيرون كأنهم "سيزيف" في أسطورة الصخرة، يدعمهم نمط عشوائي من ترويج صور وخيالات أطفال أذكياء خارقين في معالجة المسائل الرياضية، ومخترعين صغار يفكرون في مشكلات لم يختبروها معيشيا، ومواهب كروية وغنائية غير عادية يمضي بها بعض الأهل يجوبون النوادي والمسارح والبرامج، ويصنعون تفرغا حياتيا لها قربانا لصورة تقربهم من انتصار آخرين صاروا مشهورين وتعرض "الميديا" عنهم كل يوم صور التحققات المادية والحيازات المالية.

تبدأ الحكاية مبكرة تماما حين يقرر أحد الوالدين أو كلاهما أن يصنعا تاريخا مشهورا ما مبكرا لهذا الطفل أو الطفلة، فيتم عمدا اقتطاع مساحات زمان براح الحياة والنشأة "الصحية" بكل ما تستلزمه من قطع أغصان شجرة ألعاب طفولتهم، ثم يتم تحديد هدفهم نحو ما يراه الأبوان مستقبلا فذا يسوقانه جميلا أخاذا مبهرا وبإصرار موحي بإلزام للطفل والطفلة، فيسير الطفل حاملا أفكار والديه متابعا سيرة التكليفات الضاغطة ومتحملا كل نواتج توترات الإخفاق المرحلي أو الجزئي في مسار ما قرره الأبوان، ويتم ذلك دون وعي حاد من الأهل بأنهم يجعلون من أبنائهم تعويضا هائلا ضخما عن عدم التحقق أو ما يعتقدون أنه نكران الحياة الذي التصق بأيامهم، ودون أدنى ذنب لهؤلاء الصغار سوى أنهم المجال الوحيد لتطبيق أفكار بعض الآباء عن الثأر من حياة غير مانحة.

بالطبع سيحقق بعض هؤلاء الأطفال شيئا وبعضًا مما أراد وأصر عليه الأبوان ولن يعرف أحد أبدا التكلفة، كما أن الأمر يشبه أيضا أوراق اليانصيب تمامًا، حيث يشتري أوراقها ملايين الحالمين ويفوز بها آحاد الناس، محفزًا تسويقيًا لتستمر اللعبة.

ستجد هؤلاء الأطفال دوما في صحبة أب أو أم، يسيرون معا عبر الطرقات المختلفة التي تفضي إلى ضوء الكاميرات أو إلى سطور في موقع صحيفة مصحوبة بصورة، مع اعتناء جم "كلاسيكى" بهندام الأطفال، وتصفيفة الشعر التي تمنح سمتا حياديا كهلا، وهكذا تبدو ملامح هؤلاء الأطفال الطيبين العامرين بالتصديق للحياة التي يصنع صورتها الأهل، ستراهم في مسابقات العلوم والفنون والتمثيل والرياضة والحفظ، في صحبة أهل تفرغوا تماما لفكرة نبوغ وتحقق الابن أو الابنة.

أستبقي من كل ذلك وفقط مشهد طفل صغير تماما يتم وضعه في أتون إنجاز مرغوب من غيره وربما لا يؤهله له عمره، وهكذا تنشأ مزارع الحزن المبكرة في ذاكرة ومدركات كثيرين من هؤلاء الأطفال، ويخيم إرهاق الكهولة على الناشئين وتظلل مساحات التعب سنوات الغضاضة فتجهد رحلة الصبا وتؤرق خطو الشباب، ربما يجدر أن نقول: أفسحوا لهم مقاعد للدهشة في حدائق أعمارهم الصغيرة، فليس ما يمنح العمر امتدادًا جميلا وصبرًا عازمًا سوى طفولة حقيقية لا تعوضها عشرات الإنجازات اللاحقة - وإن تعددت أو تمددت أو تكدست- فتلك أشياء ليست أبدا قابلة للاستعاضة.

إعلان