إعلان

  تصاوير على حوائط الغربة .. "قصة قصيرة"

د. هشام عطية عبد المقصود

تصاوير على حوائط الغربة .. "قصة قصيرة"

د. هشام عطية عبد المقصود
09:00 م الجمعة 22 مارس 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

لا مزيد من الكلام أو محاولة البحث عن تفسير، هذه هي الغربة إذا، حاضرة ومكتملة التفاصيل بكل ضجيجها الداخلي والسكون الكوني الخارجي المحيط بها، تقتحم روحك بضراوة ثم جسدك قطعة فقطعة لتبقى، كل تلك الشوارع المضيئة كنهار في أول المساء، وواجهات المحلات المغلقة حيث تقف خلف زجاجها المعروضات ساكنة كأشباح داخل مخازن فضائية تنتظر زر بعث إيقاع الحياة، لا بشر على تلك الطرق يتأملون أو يتحدثون، لا أغنيات لأم كلثوم تنطلق خلسة من مذياع أو نافذة، لا رائحة سوى رائحة صمتك، شخص هنا أو هناك ملتصق بماكينات منصوبة ومضاءة على نواصي الشوارع متناثرة في انتظام وتكرار.

الوقت ما زال مبكرًا بتوقيت مدينته التي ألف طرقها وضجيجها، لكنه هنا صمت هائل لا يخالطه سوى تلك الأضواء القوية وعربات تمرق مسرعة في وتيرة واحدة، تصنع صوتًا وحيدًا، أحيانا يسأل: أين وجوه الناس وأين ما يبعثه دفء تنقلهم وزحامهم؟!، كل تلك الشوارع الواسعة المرصوفة بشكل متقن تتحدد فيه المطبات في استرخاء واثق ودونما مفاجآت، وكل إشارات المرور واضحة الألوان ذاتية الحركة، كل ذلك يعمل كجنيات عملاقة لا تصدر أيضا صوتا، ولا يبدو من حولها بشر، ربما التهمتهم لتنفرد بوقفتها عملاقة ساكنة.. هكذا يتصور، يصمت وهو يتذكر إرهاق أول رحلة طيران جاءت به هنا للعمل، يشعر بأنها كانت تحمل إشاراتها واضحة فتجاهلها، يزداد صمتًا.

نظر في ساعته إنها التاسعة كما يشير مستقر عقرب الساعة الصغير، ووئيدا يقترب العقرب الكبير من الرقم 12، يحار ويهمهم متمهلا كأنه يحادث ظلا يسير بالقرب منه: أين ذهب أولئك الذين يتناثرون عبر تلك الشوارع فرادى نهارا؟، عرف أن عليه منذ الآن أن يعتاد ذلك، وأنه كلما اشتاق إلى زحام ما فقط عليه أن يهبط إلى الدور السفلي من الفندق الضخم المرتفع كشبح وحيد والذي يقيم فيه، والذي لن يبدو أبدا مزدحما سوى عندما تهبط أدراج سلالمه السفلية، حيث عالم خفي محتشد بالضجيج لا يراه الغريب الجديد، سيهبط بعد ذلك فقط ليرى ناسا وزحاما، ثم عليه بعد ذلك أن يصنع مخططات للوقت، وأن يعدد الطرق التي سيتبعها في ذلك.

يقول آه لو لم أكن ملولا هكذا، لكن لا بأس هذا ما يحدث للبشر وهكذا خلقهم الله، يهدأ ويتصنع استرخاء ويستنشق هواء مشبعا بالرطوبة يقتحم وجهه فور خروجه من المبنى الضخم، يقول كل يوم أصنع شيئا ما جديدا، بالتأكيد هناك ما أفعله كل يوم، المولات للتسوق والسينما والكافيهات، نعم هو نمط واحد متكرر متعدد المواقع، لكن لا بأس، سيفعل كل ذلك وسيبقي دوما سؤال: لماذا جميعه ينتهي مبكرا هكذا بينما تظل الساعات لا تسير بسرعتها التي اعتادها دوما هناك، كان يحاول الفرار من حيرة شجرة سؤال تظلل الزمن البطيء وتنمو: ماذا جاء بي إلي هنا؟.. كان لديه بالطبع إجابة أولية، اعتبرها حينها ردًا واثقًا ومفعمًا أيضًا باليقين حين حمل حقائبه وشغل مقعده في أول رحلة طيران مسافرًا هناك.

صار بعد ذلك وكل يوم يضيع جزءًا من تفاصيل تلك الإجابة الواثقة، حتى استيقظ ذات صباح ليجدها جميعها وقد تلاشت تمامًا، وظل السؤال قائمًا كعلامة استفهام لا نهائية، هذه هي الغربة أيها البشر، فكر أن يصرخ بذلك عاليا في وسط تلك الشوارع الخالية، مرات كثيرة يفكر أن يفعل ذلك، في محايلة وقت مراوغ سيفعل أشياء كثيرة، وسيعرف أناسًا كثيرين، أكثرهم لن يحب أن يراهم بعد ذلك، أسماهم بشر "الاضطرارات"، زملاء محايلة وطأة الوقت، ستكون كل مهمتهم أن يتحدثوا في أي شيء وعليه أن يستمع وربما يشجع كل ذلك شاكرًا، لا يهم ما يأتي بعد ذلك، بهذه الطريقة يهدر قسطًا من الحياة مضطرًا وواعيًا ويفر بما تبقى، ثم عليه أن ينفرد بباقي الساعات الطويلة، منهكًا حتى المنام.

هكذا عند كل صباح وعندما يطرح السؤال: ماذا أتى بي إلى هنا؟ وفي كل مساء حين يسأل مندهشًا من أجلسني إلى هؤلاء؟ سيكون تعريف الغربة لديه قد أصبح مكتملاً تمامًا، وسيتعلم بعد ذلك حلاوة نفاد الصبر من الأشياء المزعجة وسحر وأد الملل مبكرًا، وسيكون حادًا بما لا يسمح لمتطفلين بأن ينتهكوه، وسيقدر تمامًا كل الأشياء البسيطة التي تثمر لديه طعم الشغف.

إعلان