إعلان

هوامش على متن "المذكرات" وفلسفة من يكتبونها..

د.هشام عطية عبدالمقصود

هوامش على متن "المذكرات" وفلسفة من يكتبونها..

د. هشام عطية عبد المقصود
09:00 م الجمعة 29 نوفمبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تمثل قراءة السير الذاتية والمذكرات التي كتبها أصحاب الخبرات في مناحي الحياة المختلفة نوعًا من القراءات الخاصة للتاريخ العام عبر ذات الكاتب، وهي تسير في طرقات زمانها، وتعبر حوائط الأمكنة التي عرفت، وحيث يعي البعض إشكالياتها، فيمنحها اهتمامًا فائقًا وربما مبكرًا نوعًا ما، فتأتي نصا بديعًا، لا ينفصل عن مرحلة توهج موهبة الكاتب واستمرار تدفقها، والبعض يفعل العكس فتكون المشكلة.

وعرفنا في الغرب كتاب السير المتخصصين، وهم في الغالب يكتبون سير العلماء والباحثين أصحاب المنجز الإنساني المهم، يحملون عنهم عبء طريقة السرد وكلفة جهد البناء الفني، وكمثال سنجد في إحدى أمتع السير الذاتية التي تخص العالمة ماري كورى: "هوس العبقرية" لمؤلفتها باربرا جولد سميث، وحيث عبرت في عذوبة وتآلف عن البعدين العلمي والإنساني في شخصية العالمة الحائزة على جائزة نوبل مرتين في الفيزياء والكيمياء، تعرض توقا فريدا في الحياة ومأساة إنسانية معا، في براعة سرد قادرة على أن تجفف من تصور القارئ العادي عن طبيعة سيرة ذاتية لباحثة ومخترعة، فتمنحها طابعا إنسانيا محببا، وأيضا تسويقيا هو من مقتضيات صناعة النشر.

لكن الأمر الصعب ولا أقول أكثر من ذلك، يخص ما قرأت مؤخرا من سيرة ذاتية أو فلنقل ذكريات اجتهد صاحبها كثيرا في التنظير والفلسفة وفق ما أرى، دون أن يفضي ذلك إلى شيء كبير في اتجاه أن يكون نصا مميزا، فأحدث قطيعة معرفية مع إنتاجه الكثيف الذي سبق ذلك وعرف به، فتأكد لدي أن خيطا سميكا بل قل إن ما يشبه حبلا غليظا ينهض بين كتابة ذكريات أو مذكراتٍ كنص يحمل ذائقة وتجربة ورؤية لحركة الإنسان داخل حيز المكان والزمان وبين الرغبة فقط في أن تكتب عن ذاتك دون مبرر واضح مفهوم متبلور، فتملأ صفحات ما شاء للقلم أن يخط، وحيث لا يقطع ذلك هدأة أو تردد وتدبر كبيران بشأن ما تحمله الصفحات البيضاء من غير سوء.

يمكن للمذكرات والسير الذاتية أن تتحول من مجرد شرفات تطل على ما مضى متأملة مدهشة فتكون منصة لإطلاق الحجارة الصغيرة على كل من عبر تحت شرفة الذكريات، خاصة لو كان بعضهم قد رحلوا فلا يملكون الرد أو التفنيد أو حتى أحياء يرزقون ولكن يحجمون، هكذا صارت بعض السير والمذكرات والذكريات تقول بعد أن تقرأها ليت صاحبها قد صمت، فقط شفقة على كاتبها ذاته من صورة كانت أبهى كثيرا، فآثر ألا تبقى كذلك، لينتهي الأمر بأن يكون العمل الأخير هو الأقل فكرا وإبداعا، ويحتشد بتسطير مئات الصفحات لا نرى فيها فرادة التجربة وإن أوغلت فقط في تبرير وإعلاء سلوكيات الذات.

المشكلة التي تؤثر في منهج بعض كتب السير الذاتية العربية - والتي بدأت تتنشر كإنفلونزا الشتاء - أنها تتأثر بكتابات وتنظير نقدي غربي قديم عن تقاليد كتابة السير الذاتية الناجحة، والتي بالضرورة بها مناطق كاشفة لعورات السلوك للذات ولمن حولها، وأقسى ما في ذلك تأثيرا هو الإفراط – تأكيدا لصدق صاحب التجربة وراوي سيرتها – في كشف مسيء لسلوكيات من حوله والأقربين، وهو ما لا يتفق بحال مع مفهوم عظيم في ثقافتنا العربية والإنسانية وهو الستر، فيستغرق أحدهم في تتبع ما يشين كبر أو صغر، دون أن يدري أن سر نجاح السيرة ليس مجرد كونها انكشافية للآخرين أو فضائحية تضم ما لا يفيد القارئ، خاصة إذا أعدت القراءة مرارا فلا تجد لذلك صلة مهمة أو مضيئة بسياق تكوين ونشأة الكاتب وما له أثر على تجربته الفكرية والإنسانية، وإنما تشعر أنها موضوعة لذاتها.

تتعدد النماذج الغربية المهمة في السير الذاتية التي كتبها أصحابها من أدباء ومفكرين وسياسيين ومخرجين وممثلين ورسامين، وبعضها بالطبع به جانب فضائحي للذات لكنه ليس بغريب عن المنحى الثقافي وتقاليد مجتمعاته في البوح ولا تشعر به مفتعلا أو مقصودا، لكن هنا بدأ الأمر يسير في عكس ذلك.

ولعل بعض السير المصرية التي وجدت أنها تحمل بعضا من المذاق العذب الأخاذ حينًا بوعي تخاصم مساحة جمود اليوميات والتفاصيل التي تنفصل عن زمانها ومكانها لتكون بحثًا نبضا في عروق الزمان وحركته، تصف خطوات وتحققات وألمًا – كما طبع الحياة كبد – لا يخلو أبدا من حدائق ذات بهجة، نجدها عند أحمد عباس صالح في سيرته "عمر في العاصفة" وما كتبه شريف حتاتة في "النوافذ المفتوحة" وجلال أمين في الجزء الأول من سيرته "ماذا علمتني الحياة؟"، وغير ذلك.

أظن أن أكثر ما يسيء لفكرة ومكانة السير الذاتية أن يدخل ساحتها كل من اعتقد أن العمر وحده مؤشر ضروري وحيد لكتابتها، وكأنه يعتقد أن ثمة خلودًا في الحياة تمنحه كتابة الذكريات، أو أن وجودها هو بمثابة ضرورة وفعل يجدر أن يقوم به كبار المفكرين والمؤثرين في حياة مجتمعاتهم – وهكذا هو بالضرورة منهم - مع أن أكثرهم لو أحصيت لم يفعلوا، من هنا تغلب الميلودراما أحيانا أو الاستغراق فيما لا يلزم، وقد ينتهي النص زاعقًا طويلًا مملًا، يبدأ وينتهي نسيًا منسيًا.

إعلان