إعلان

في الشعر الجاهلي.. هل أخطأ طه حسين منهجيًا؟

طارق أبو العينين

في الشعر الجاهلي.. هل أخطأ طه حسين منهجيًا؟

طارق أبو العينين
09:00 م السبت 02 نوفمبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تمر، هذه الأيام، ذكرى رحيل الدكتور طه حسين الذي توفي في 28 أكتوبر من عام 1973 تاركاً خلفة منجزاً فكرياً وأدبياً ضخماً، يجعله بلا أدنى مبالغة شخصية كلاسيكية في تاريخنا الأدبي والفكري المعاصر، لكن ذلك لن يحول مطلقاً دون إخضاع هذا المنجز إلى قراءة عقلانية نقدية تتعاطى معه بعيداً عن ضجيج الخطاب الأيديولوجي الذي عبأ مناخنا الثقافي والفكري وحال في كثير من الأحيان دون اكتشاف الكثير من الحقائق المعرفية، بل طمسها إذا اقتضى الأمر ذلك دفاعاً عن موقف أو قناعة بعينها.

ولعل الجميع يعلم أن الدكتور طه حسين كان قد أصدر عام 1926 كتابة المثير للجدل «في الشعر الجاهلي» الذى تمحور حول فرضية أن القرآن هو أصدق مرآة للعصر الجاهلي، وليس الشعر الجاهلي، باعتبار القرآن كتاباً عربياً، لغته هي اللغة العربية التي كان يصطنعها الناس في عصره أي العصر الجاهلي، كما أن العصر الجاهلي كان عصراً متقدماً على المستوى العقلي، ومن ثم فلا يمكن أن يُفهم عبر هذا الشعر المسمى بالجاهلي الذى هو قليل من حيث أصالته وارتباطه بالعصر الجاهلي، ومن ثم فهو لا يمثل العصر الجاهلي بل تمثله أغلبية ما نعرفه من الشعر الجاهلي الذى انتُحل بعد ظهور الإسلام، لكن طه حسين قد صدم الحس الديني، سواء لدى علماء الدين أو الساسة الليبراليين، مثل سعد باشا زغلول أو العامة من الناس، عندما قال في كتابه نصاً بأن «للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا، لكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي».

ولعل المفارقة أن أقسى رد على طه حسين قد جاءه من الزعيم الليبرالي سعد زغلول الذى قال نصاً أمام جمع من الجماهير التي خرجت للتظاهر ضد طه حسين «إن هذا الدين متين، وليس الذى شك فيه زعيم أو إمام حتى نخشى من شكه على العامة، فليشكّ ما شاء.. ماذا علينا إذا لم يفهم البقر؟».

وبطبيعة الحال قاد الأزهر تلك المعركة، وتظاهر طلابه ضد الكتاب عند صدوره، ثم هدأت المعركة، وعادت لتتجدد مرة أخرى بعدها بستة أعوام كاملة حتى تم منع الكتاب من التداول عام 1932، كما تم فصل طه حسين من الجامعة في نفس العام، بضغوط من البرلمان والحكومة تحقيقاً لرغبة الأزهر.

وبرغم مرور كل هذه الأعوام على تلك المعركة، وتحول موقف الأزهر من طه حسين بعدها مباشرة عندما دعاه الشيخ المراغي في منتصف الثلاثينيات إلى الكتابة في مجلة الأزهر، بل تحول موقف طه حسين نفسه واتجاهه إلى الكتابة في الإسلاميات حتى نهاية حياته، لكن تلك المعركة لا تزال إحدى أيقونات السجال الفكري بين أنصار التراث وأنصار الحداثة والتنوير، ومن ثم فإنه يجرى استدعاؤها كلما اندلعت معركة ثقافية وفكرية معاصرة مشابهة لها تتعلق بدور وحجم رقابة المؤسسة الدينية على حرية الإبداع، ومن ثم حيلولتها دون تبنى المجتمع قيم التنوير، لكن الجميع قد نسي، أو تناسى مسألة تلك الصيغة المنهجية التي طرحها طه حسين نفسه والمتعلقة بتحليل النص القرآني والتعاطي مع حقائقه الوجودية باستخدام منهج ديكارت.

فمنهج الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت يتلخص في استخدام الشك وتوظيفه علمياً حتى يتحول هذا الشك إلى يقين في حد ذاته، ولذلك سُمى بالشك المنهجي، وهو ما أقر به طه حسين في كتابة عندما تحدث صراحة عن منهجه في البحث ورغبته في أن يصطنع في الأدب ذلك المنهج الذي استحدثه ديكارت للبحث عن الحقائق والأشياء بشكل يتجرد فيه كباحث من كل انحياز ديني أو قومي يحول بينه وبين الوصول إلى الحقيقة، لكن السؤال الذى يطرح نفسه الآن هو: هل يمكن استخدام المنهج الديكارتي القائم على الشك في نقد وتفكيك المسلمات الدينية؟ وهل نجح طه حسين على المستوى المنهجي في التعاطي مع تلك المسلمات بشكل متجرد وغير منحاز؟

أعتقد من وجهة نظري المتواضعة أن الدكتور طه حسين عندما استخدم منهج ديكارت في تفكيك المسلمات الدينية الكبرى، عبر التشكيك في الوجود التاريخي لسيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل (عليهما السلام) قد غالط نفسه، وغالط منهج ديكارت في آن؛ لأن التعاطي المنهجي غير المنحاز مع أطروحة رينيه ديكارت يقتضى بكل تأكيد عدم توظيفها في هدم المسلمات الدينية، وهو ما أكده ديكارت نفسه في كتابه الأبرز «المنهج العلمي» الذى سك فيه مفهومه الجديد والمتكامل عن الشك المنهجي وشرحه؛ فديكارت قال إنه لا يستطيع أن يسير سيراً طبيعياً في منهجه أو حياته متشككاً في كل شيء منذ البداية، ولذلك وضع ضمن منهجه ما أطلق عليه (قواعد الأخلاق المؤقتة) التي تُلزمه ببعض الأمور التي اعتقد بوجوب وجودها خارج نطاق ذلك الشك، عندما شرع في تأسيس منهجه العلمي، وأولى تلك القواعد كما قال ديكارت نصاً في كتابة هي (أن أطيع قوانين بلادي مع ثبات محافظتي على الديانة التي أنعم الله بها على منذ ولدت)، وهى قاعدة ضمن قواعده الأخلاقية المؤقتة التي سار عليها طوال وضعه لمنهجه، بل طوال حياته؛ لأن الأقدار لم تمهل ديكارت عمراً؛ كي يضع ما وصفه بقواعد نهائية للأخلاق تجُبّ تلك القواعد المؤقتة أو تفككها، ومن ثم فمنهج ديكارت بالصورة التي عرفناها جميعاً لا يتيح لديكارت أو لغيره على الصعيد المنهجي إمكانية الطعن في العقائد الدينية ومسلماتها الغيبية أو حتى تهميش وتحاشي أحكامها القاطعة التي يتطلبها ثبات محافظة الإنسان على دينه الذى تحدث عنه ديكارت في أولى تلك القواعد.

ولذلك يمكن القول إنه إذا كان النزوع الأيديولوجي والفكري والعقائدي لخصوم طه حسين قد حال على صعيد السياق الزمنى بينه وبين إمكانية عرض أطروحته بشكل موسع طوال حياته، فإن النزوع الفكري والأيديولوجي والعقائدي لأنصار طه حسين قد حال على صعيد السياق المعرفي بالمقابل دون اكتشاف هذا الخطأ المنهجي الفادح، أو حتى وضع أطروحة الرجل موضع النقد والتشكيك المباحين حيال العلوم الإنسانية التي تتسم بنسبية المعرفة، وتخضع لسياقات وملابسات عصرها، ومن ثم تكون قابليتها للتشكيك جزءًا لا يتجزأ من طابَعها العلمي، وهو ما يعنى، في النهاية، أن معركة كتاب في الشعر الجاهلي تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن غبار تلك المعركة الأيديولوجية الزائفة التي تحولت إلى حفرية معرفية، وثابت من ثوابت وعى نخبتنا المثقفة- قد حال بكل تأكيد دون اكتشاف أنوار الحقيقة أو حتى محاولة استجلائها، بما يعكس تعريف الحداثة من منطلق فلسفة ديكارت نفسه، بوصفها ذلك الذهن المتسائل الذى لا يُذعن إلى أي حقيقة قبل أن يطرح عليها الأسئلة.

إعلان