إعلان

المتأخرات

المتأخرات

د. غادة موسى

أستاذ مساعد - كلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة 

09:00 م السبت 26 مايو 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

كثيراً ما نسمع عبارة "بلا نهايات". وفي مصر تكون دوما البدايات جميلة ومبشرة بالخير ومفعمة بالأمل، لكن لا نرى لها نهاية، حتى نبدأ في بداية جديدة. فعادة ما تتأخر النهايات حتى تُنسى.

وهذا ينطبق على مجالات عديدة في حياتنا. فهل تصبح النهايات بعيدة؟.. وهل تظل البدايات مجرد بدايات..؟

في هذا السياق، أشير إلى أحد نماذج تلك البدايات التي بدأت منذ عام ٢٠٠٢، أي منذ ستة عشر عاما! وهذه البدايات اسمها" قانون المعلومات".

فمنذ هذا التاريخ وقبل الثورتين يتحدث صانع القرار والنخبة والمثقفون والمتخصصون عن أهمية المعلومات وعن ضرورة وجود قانون للمعلومات. وانعكس هذا الاهتمام في وضع نصوص بعينها في الدساتير المصرية التي أعقبت ثورتي ٢٥ يناير و٣٠ من يونيو، تؤكد على أهمية المعلومات في حياة المجتمع المصري، وعلى ضرورة حصول المواطن على المعلومات التي يريدها من الدولة، لأنها أحد حقوقه الرئيسية ليتمكن من تسيير أمور حياته.

...

فما الذي يجعل المعلومات مهمة إلى هذا الحد؟ وما الذي تخبرنا به المعلومات؟ المعلومات قد تكون وصفية، وتوضح لنا ما الذي يحدث في مجال أو منطقة بعينها. وقد تكون شارحة ومفسرة، وقد تساعد على التنبؤ. بمعنى ما الذي يمكن أن يحدث في التجارة العالمية لو تم شن حرب واسعة النطاق على سبيل المثال. كما أنها قد تبين لنا ما الذي يجب أن نفعله في شأن موضوع ما. ويخطئ من يظن أن المعلومات مهمة فقط لرجل الأمن أو للأكاديمي أو الباحث أو الصحفي أو المتخصص. المعلومات احتياج وسلعة ضرورية للجميع.. وخاصة في هذا العصر. بل إنه من كثرة تداولها وتبادلها وتوافرها زادت أهمية تقنينها والبحث في إطار قانوني ملائم يحكم، وينظم تداولها لصالح الجميع.

...

وفي الواقع، نحن متأخرون كثيراً في هذا الشأن. كما أننا أيضا مختلفون حول أهميته وأولويته وإلحاحه. ونحن.. تلك لا تتضمن الجمهور العادي الذي أوجد لنفسه منصات- غير مقننة- لتبادل البيانات والمعلومات فيما بينه، فيما هناك- وعلى الضفة الأخرى- من لا يزال يناقش كيفية إتاحة المعلومات.

ومصطلح "لا يزال" يتأرجح بين جهات ومؤسسات عديدة ترى كل واحدة منها أن القضية تقع في نطاق اختصاصها وعملها. لذلك عندما نستعرض محاولات إصدار مشاريع قوانين منذ عام ٢٠٠٢ نستطيع- وبكل يسر- ملاحظة صور وروح المؤسسات في مشاريع القوانين المختلفة.

فمشروع القانون الصادر عن وزارة العدل يهتم بالشق القانوني- التنظيمي للمعلومات وسريتها. في حين نجد أن مشروع القانون الصادر عن وزارة الاتصالات في نفس الفترة الزمنية يركز على الآليات والأجهزة المعنية بإتاحة المعلومات، بينما تركز مشاريع القوانين المقدمة من بعض منظمات المجتمع المدني على مفاهيم الأمن القومي، وأدوار الأجهزة العليا للمعلومات.

كما يمكن قراءة التباينات الكبيرة بين مفاهيم الأمن القومي في مشاريع القوانين المختلفة، على الرغم من أن دول العالم المتقدمة والنامية قد حسمت تلك المسألة بضوابط ومعايير محددة، ونحن مازلنا في جدل دائر حول الأمن القومي وسرية البيانات، ومن له الحق في الإتاحة والمنع ومن يُمثل في المجالس العليا للمعلومات! ومازالت مشاريع القوانين في الأدراج سواء في الجهات التي تقدمت بها أو في أدراج مجلس النواب.

أما بالنسبة لمجلس النواب، فقد شرعت لجنة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في مناقشة الحفاظ على سرية البيانات، وهو الأمر الذي يرتبط بتداول المعلومات، ولكنه بمثابة الفرع للأصل. فأين الأصل؟ إن تجارب الدول التي سبقتنا في هذا الشأن لا تشير إلى أنهم بدأوا بمناقشة الحفاظ على سرية البيانات والمعلومات قبل إتاحة المعلومات نفسها، وذلك مرجعه فلسفة القوانين المتعلقة بالمعلومات في تلك الدول التي تنظر إلى جانب الحق، وليس إلى جانب الأمن.. فقط.

واللافت للنظر أن "فلسفة الحق" في الحصول على المعلومات عبر عنها الدستور في المادة ٦٨ بأن الأصل هو ملكية الشعب لها وكفالة الدولة لهذا الحق. وهنا يثور التساؤل حول تقدمية الدستور مقارنة بتراجع المناقشات والأطروحات المقدمة من الجهات المختلفة، وكأننا نعيش فجوة الدستور والممكن!

وحتى كتابة هذا المقال لا يزال النقاش قائما حول قضية حماية سرية البيانات.

...

إن إصدار قوانين المعلومات في معظم دول العالم المتقدم مر بعدد من المراحل، كانت بدايتها إصدار قانون لإتاحة المعلومات وتحديد المعلومات التي يمكن إتاحتها وكيفية إتاحتها (ورقيا- إلكترونيا) وأماكن الإتاحة والتسعير والعقوبات المترتبة على عدم الإتاحة وإجراءات التقدم بشكاوى. ومع انتشار وسائل التواصل المجتمعي الإلكترونية والتدفقات الهائلة للمعلومات وعمليات توظيفها وإعادة استخدامها وحفظها، من خلال شركات متخصصة، ووجود حالات استغلال بيانات الأشخاص والجهات لأغراض اقتصادية تنافسية ولأغراض التجسس والقرصنة، ظهرت الحاجة للتفكير في حماية سرية البيانات والمعلومات، من خلال وضع قوانين لهذا الشأن.

وتدلنا فضيحة "كامبريدج أناليتيكا" التي تم من خلالها اختراق خمسين مليون حساب على "فيسبوك" أثرت على توجيه الناخبين في الولايات المتحدة الأمريكية، وكلفت شركة "فيسبوك" أكثر من أربعين مليار دولار خسائر وسط تحقيقات من الكونجرس الأمريكي، إلى خطورة تسريب البيانات على الأوضاع السياسية والاقتصادية للدول وإلى مسؤولية الدول عن حماية بيانات مواطنيها والموجودين على أراضيها.

وعلى الفور أصدر الاتحاد الأوروبي تنظيما عاما لحماية البيانات General Data Protection Regulation أو ما يعرف باسم GDPR يتناول قضايا السرية وتبادل البيانات عبر البريد الإلكتروني وحقوق الملكية وكيفية قياس أثر الحماية على ثقة المتعاملين وحق الفرد في محو بياناته أو ما يطلق عليه "حق أن يكون منسيا في تبادل البيانات" وعمليات تصميم البيانات وإخفائها، بالإضافة إلى أدوار ومسؤولية موظف حماية البيانات.

فالأمر، إذن، لا ينطلق من فكرة السرية فقط، وإنما من واجب الحماية وبناء الثقة بين الدولة ومواطنيها والشركات وعملائها، خاصة بعد أن صارت البيانات والمعلومات سلعة باهظة التكلفة وواسعة الأثر.

لذلك نحن متأخرون في تراتبية التعامل مع قضية البيانات والمعلومات. وفي ظل هذا التأخر يحدث كل شيء ويرتكب العديد من المخالفات، لأننا نعيش حالة سيولة لا محدودة وغير منضبطة وغير مراقبة من تبادل وتداول المعلومات وصلت إلى حد ترويج الشائعات والترويع والترويج لأفكار وسلع رديئة المنشأ، عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة.

كما أننا- ونحن متأخرون- فإننا أيضاً لا نعي قيمة الوقت، ففي الثلاث سنوات الأخيرة ظهرت تطورات كبيرة في تقنيات المعلومات مرتبطة بإنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي وكتل سلاسل المعلومات التي تتيح المعلومات للجميع والخوارزميات.

وجميعها يشبه الشركات عابرة الحدود. فلا حدود في استخدام المعلومات وإتاحتها. والأمر سيزداد صعوبة، خاصة بالنسبة للدول النامية والدول التي ما زالت متأخرة عن تأمين بنيتها التحتية المعلوماتية بشكل يستوعب المستجدات، ويتنبأ- في ظل إطار قانوني أكثر شمولا واتساعا- بالمخاطر القادمة.

لذلك، نحن لا نريد نهايات متأخرة.

إعلان