إعلان

الفرح سطر غلط مكتوب!

الفرح سطر غلط مكتوب!

خيري حسن
09:00 م السبت 03 فبراير 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بعد فترة انتظار استمرت طويلاً، صعد السائق، وجلس أمام عجلة القيادة، وفي الساعة الواحدة ظهرًا بالضبط، تحرك بنا أتوبيس هيئة النقل العام، من المحطة القديمة في محافظة بني سويف، التي تقع شمال الصعيد في طريقه للقاهرة.

الركاب أخذوا أماكنهم. الرجال منهم يرتدون «جلاليب بلدي» يشبه بعضها بعضًا، وعلى رؤوسهم عمائم، تخفي وراءها خوفهم من المجهول، الذي هم في طريقهم إليه، والسيدات متشحات بالملابس السوداء، وعلى وجوههن أحزان ليست عادية، لا أعرف لها سببًا محددًا.

تحرك الأتوبيس مسافة ليست بعيدة، حاول فيها السائق إدارة مؤشر المذياع، وعندما لم يستجب له، مد يده بجواره، فوجد شريط كاسيت، فوضعه في مكانه، وحاول تشغيله، لكن المحصل- يسميه البعض (الكمسارى)ـ طلب منه الانتظار، حتى ينتهي من عمله.

بدأ المحصل يمر ببطء في الطرقة، وفي يده صندوق خشبي قديم، ومظهره الخارجي- من عرق يده- تلون بالسواد. وبدأ يرتفع صوته مناديًا، وهو يضرب بقلم صغير على الصندوق، قائلاً: «تذاكر يا حضرات.. تذاكر يا حضرات»، وقتها استعدَّ الركاب لدفع الأجرة. كنت أجلس بجوار زجاج الشباك في المنتصف، وبجواري رجل، الشعر الأبيض غزا رأسه، في طريقه لإجراء عملية جراحية في مستشفى قصر العيني، بعدما فشل أطباء المستشفى الأميري في علاجه. بعد دقائق عاد المحصل من رحلته لجمع الأجرة، واستسلم البعض للنوم العميق، والبعض الآخر بدأ يهرب من التوتر، بالحديث عن الحياة، بكل ما فيها من جمال وقبح، وصحة ومرض، وعودة وسفر، ويأس وأمل؛ في محاولة منهم لمطاردة، هاجس الغربة التي يشعرون بها، ويخافون منها، وهم يغادرون قراهم الهادئة إلى العاصمة الصاخبة.

جلس المحصل في مقعده بجوار السائق، الذي قام بتشغيل الكاسيت، الذي طاوعه هذه المرة، ولم يخذله مثلما حدث مع المذياع. الرجل بجواري يحمل في يده الأشعة والتحاليل الطبية، ويقبض عليها بشدة، وينظر بترقب وتوتر للفضاء الخارجي، من زجاج الأتوبيس على مساحات من الأراضي الزراعية الشاسعة، التي يعمل فيها فلاحون مثله، وكأنه يودعها ويودعهم، ثم يختفون وراء عربات قطار الصعيد الذي يمرق بجسده، عائدًا برحلته من القاهرة للصعيد.

الموسيقى الحزينة من صوت الكاسيت، بدأت تتسرب إلى أسماعنا، بعدها جاء صوت المطرب، وفي نبراته حالة حزن وشجن عنيفة، وهو يغني: "كتاب حياتي يا عين/ ما شفت زيه كتاب/ الفرح فيه سطرين/ والباقي كله عذاب!" وكنت أنا أول مرة أسمع فيها هذه الأغنية، وهذا الصوت الحزين.

بدأ راكب في المقعد أمامي يدندن مع الأغنية، سألته: من هذا المطرب؟ رد وهو لا يلتفت إليَّ، ويشير بيده حتى لا أزعجه، أو أحرمه من التعايش مع الأغنية، قائلاً: اسمه حسن الأسمر يا ابني.. (1951- 2011) ثم عاد يدندن، بعدما طلب من السائق رفع الصوت قليلاً، خاصة عندما وصل حسن الأسمر إلى قوله "كتب الزمان جوه همي/ من غير ما يرحم ويسمي/ كتب عليَّ البكا والنوح/ وهان عليه دمعي ودمي". بعد لحظات خيم الصمت على جميع الركاب، ولم نعد نسمع حكاياتهم العادية، وثرثراتهم المزعجة، وشكواهم بعضهم لبعض، التي لا تنتهي، فلقد انتبه الجميع باستثناء- من غلب عليهم النعاس فناموا- وبدأوا يستمعون لهذا الصوت الذي ينقل أوجاعهم، ويعزف بصدق على أوتار أحزانهم، التي جاءت معهم محمولة على ظهورهم، حتى وهم في طريقهم، للقاهرة، الصامتة أمام أوجاعهم، والساخرة من أحزانهم! وما إن وصل صوت حسن الأسمر إلى قوله:

"كشف الحكيم أصبح عادة/ ومن عيادة لعيــــــــــــادة

وكل واحد أروح له يقول/ قطعت قلبي وبزيـــــــادة"

هنا لمحت من بجواري يضغط أكثر على ما في يده، ويلتصق أكثر وأكثر في مقعده، وكأن المطرب ينطق بوجعه وألمه وخوفه من المرض. نظرت له نظرة فيها أمل؛ محاولاً تهدئته، وإبعاده عن منطقة الخوف والرعب، التي وضعه فيها صوت حسن الأسمر. ثم وصلت الأغنية إلى كلمات تقول:

"يا دنيا هاتي كمان هاتي/ ما يهمكيش هم حياتي

ما أنا أصلي واخد ع الأحزان/ والدمع في عيوني ليلاتي".

هنا انفجر في المقعد قبل الأخير صوت سيدة عجوز، بالبكاء بشدة لدرجة جعلت جميع الركاب يلتفتون إليها. ثم قام رجل أربعيني بسرعة خاطفة، واتجه إلى مقدمة الأتوبيس، أمر السائق بإغلاق الكاست. وقد كان! في نفس الوقت، قام رجل آخر ومعه ثلاث سيدات متشحات بالسواد عادوا للسيدة العجوز، وحاولوا التهدئة من روعها، وإلى حد ما نجحوا في ذلك. وعند عودة الرجل ومروره بجواري، سألته: ما هو سر بكائها؟ ردد بتأثر شديد، وقال: ابنها الأكبر سافر في عام 1989 إلى الكويت للعمل في قطاع البترول. ومن قبله كان شقيقه الأكبر قد سافر عام 1988 إلى العراق، ومنذ حرب الخليج الأولى واجتياح العراق للكويت، لا تعرف عنهما أي شيء. وفى كل أول شهر، تذهب إلى مبنى وزارة الخارجية على كورنيش النيل بوسط القاهرة، لتسأل عنهما، وتعود- كالعادة- بلا إجابة. كنا وقتها قد وصلنا إلى محطة الوصول بمنطقة المنيب، وبدأنا مغادرة الأتوبيس، كل راكب منا يحمل بداخله أوراق كتابه، الذي حاول صوت حسن الأسمر عبر الرحلة، البحث بين سطورها عما فيه من أحزان.

مرت السنون.. وعملت بالصحافة، وسافرت إلى محافظة قنا في جنوب الصعيد مع الإعلامي طارق علام وبرنامجه الشهير لإقامة حفل زفاف جماعي لـ300 عريس وعروسه، بالتعاون مع المحافظة، وفوجئت بأن الفنان أحمد بدير والمطرب حسن الأسمر كانا معنا على الطائرة التي هبطت بنا في مطار الأقصر، وهما من أبناء مدينة قنا. استقبلنا المحافظ- وقتهاـ اللواء عادل لبيب في مكتبه، وفي المساء توجهنا للفندق للمبيت، وفي اليوم التالي كان الحفل، وقتها اقتربت من حسن الأسمر وحدثت بيني وبينه ألفة سمحت لي بالتعرف عليه أكثر وأكثر، فهو إنسان ينتمي إلى الصعيد، رغم أنه ولد في حي العباسية بالقاهرة، فجمع بين أصالة أبناء الجنوب و"جدعنة" أبناء أحياء القاهرة العريقة.

سألته عن حكاية أغنية "كتاب حياتي"، وحكيت له عن الذي حدث لي معها، منذ سنوات، وكيف أنها، أبكت سيدة بشدة بسبب الصدق في صوته، لدرجة جعلت بعض الركاب يطلبون من السائق غلق الكاسيت؛ حتى لا تستمر المرأة في البكاء، كنت أحكي له الحكاية، وهو يضع قطعتين من السكر في فنجان الشاي أمامه، ويسحب سيجارة من علبة سجائره، وينظر للسماء من زجاج بهو الفندق الذي نحن فيه، وكأنه يتذكر كلمات الأغنية. سألته بعدما أشعل سيجارته عن هذه الأغنية؟ فقال: جاءت هذه الكلمات لي بالصدفة البحتة، حيث كنت أجلس على المقهى في العباسية، عندما اقترب مني شخص ما لا أعرفه، وعرضها عليّ.. وقتها تأثرت بحالة الشجن والوجع والحزن الذي بين حروفها، فأخذته من يده، وبدأنا العمل عليها فى نفس الليلة التي رأيته فيها، حتى ظهرت للنور.

ثم ضحك قليلاً، وهو يقول: هذه الأغنية أصبحت عبئًا عليَّ، فأنا لا أذهب إلى أي مكان إلا ويُطلب مني غناؤها، وكأنني أحمل مكتبة أحزان وليس كتابًا واحدًا.

في المساء تحركنا إلى مبنى المحافظة للاستعداد إلى الحفل الذي كان سيقام بعد ساعتين، في مكتب المحافظ، وضع لنا الساعي القهوة، وسلم بشدة على حسن الأسمر، ثم قال له: "كتاب حياتي يا عين.. ما شفت زيه كتاب"، قالها هامسًا بصوت مرتبك، وهو يغادر مكانه خوفًا من أن يسمعه أحد من الحضور، خاصة المحافظ، نظر لي حسن الأسمر دون أن يتكلم. وفي الحافلة التي ذهبت بنا إلى مكان الحفل.. قلت له: لا تندهش من الصيت الذي حازت عليه تلك الأغنية، لأنها تعزف على الحزن داخل النفس البشرية، وتطرق أبوابه بشدة، ولك أن تعرف أننا بداخلنا جبال من الأحزان. هز رأسه ووضع يده على كتفي ونحن نستعد للنزول. وصلنا إلى مكان الحفل على كورنيش النيل هناك. أهالي قنا من المدن والريف كانوا في استقبالنا، الكل يسلم ويشاور ويهتف ويرقص، ويغنى. وأثناء مرور حسن الأسمر أمامي للصعود ليغنى للفرح. وقف أمامه رجل عجوز يتكئ على عصاه. وقال: "يا ابني .. ممكن تغني كتاب حياتي يا عين"! قالها الرجل ودموعه تسابق كلماته!، سكت وهو ينطر له، ولم يرد عليه. وأنا أنظر له، وأنظر للدموع فى عيني الرجل، وللفرح في عيون من حولنا، وللنيل خلفنا، ولسان حالي يسأل: لماذا يطاردنا (الحزن) حتى ونحن فى أوقات (الفرح)؟

إعلان