إعلان

عبدالله محمود.. "هارب من الحياة"

عبدالله محمود.. "هارب من الحياة"

خيري حسن
09:00 م السبت 17 فبراير 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

فى ممر ضيق وطويل يحتل الدور الأرضي من مستشفى الهرم، يجلس على مقاعده مرضى جاءوا من قرى ومدن شمال الصعيد، محوّلين من مكاتب التأمين الصحي. عيون المرضى زائغة، شفاهم تنطق بالأحرف الأولى للوجع. أيديهم تهتز من شدة القلق. الكل- وأنا بصحبة أبى المريض- في انتظار الأطباء في مدخل العيادات الخارجية، المغلقة، على أصوات ممرضات يتسامرن، ويضحكن في بلادة وأحاسيس ميتة.

جلس أبي على مقعد وسط المرضى، ووقفت أنا أتابع من بعيد لحظة ظهور الطبيب المعالج. الوقت يمر ببطء، حكايات المرضى التي أسمعها من بعضهم لبعض مؤلمة. الطبيب يبدو أنه معتاد التأخير، وأنا مازالت أقف مكاني أشعر؛ بأنني في منتصف الطريق بين بشر متمسكين بالحياة، وآخرين استسلموا- من قسوة المرض- في انتظار الموت بهدوء.

من بعيد، لمحت شاباً نحيل الجسد، أسمر الوجه، قادماً من الممر في طريقه إلينا، بخطى ثابتة. المرضى ومن معهم يهرولون إليه- وتجاهلوا المرض- ليسلموا عليه، وبينهم من يصر على أن يحتضنه بكل بقوة. خطوات بعد خطوات، إلى أن اقترب من المكان الذي أقف فيه.

إنه الفنان الشاب عبدالله محمود «1960 - 2005» أما أنا فلم أتحرك إليه ولم أسلم عليه، ولا أدرى حتى الآن سبباً منطقياً لذلك.

بعد لحظات، وقف بجواري، وفى يده تحاليل وأوراق أخرى في انتظار وصول الطبيب أيضاً، وبعدما أعطى ظهره للحائط وأخذ مكانه في الوقوف، هب رجل ستيني وقتها- كان هذا عام 1996- وتقدم إليه يذكره و يحدثه عن دوره في مسلسل «ذئاب الجبل» الذى لعب فيه دور ضابط مباحث «بهتون الجبل» الذى ظل يطارد فيه «البدرى بدار»- أحمد عبدالعزيز - حتى ألقى القبض عليه في مدينة الإسكندرية، في الحلقة الأخيرة. سأله الرجل بكل براءة واندفاع قائلاً «قولي يا أستاذ عبدالله.. هو أنت كنت ليه قاسى على «بدرى بدار كده؟.. زي ما يكون بينك وبينه تار»؟ سأله الرجل، ثم عاد وجلس مكانه. أما عبدالله محمود فرد وهو يبتسم قائلاً: "ياعم الحاج.. ليس هذا ذنبى.. السيناريو كده" ! .. ثم قال وهو يضحك: "أنا مثلك كنت أحب بدري بدار" هز الرجل رأسه معبرًا عن عدم قناعته بتبريره هذا. بعد دقائق جاء الطبيب.. فازدحم المكان، وحدثت الفوضى المعتادة، واختلط الأمر ما بين طوابير غير منظمة، وبين زحام على أبواب العيادات.. وسط حالة الفوضى التي تحولنا إليها، غاب عن وجهى الفنان عبدالله محمود، فلم أعد أراه، ولم يعد المرضى يهتمون إلا بالدخول للطبيب. مرت سنوات عديدة، إلى أن وجدت نفسي ذات يوم في طريقي لشارع الهرم مرة أخرى، لإجراء مقابلة صحفية معه، ولكن هذه المرة المكان محدد، والزمان محدد، وهو في انتظاري. كان المكان فيلا قديمة.. ودرجة الحرارة شديدة. والضجيج في الشارع لا ينتهي. استقبلني بابتسامة. ملامح وجهه تشبهني. وتشبهك وتشبه ملامح سائق التاكسي الذي جئت معه إليه. قال: الجو حار. ونحن الآن في «استراحة» لمدة ساعة، والمكان مزدحم بالزملاء والكاميرات، لذلك دعنا نخرج ونجلس في البلكونة التي تطل على حديقة واسعة. ثم سكت قليلاً وقال: «الجو.. هنا خانق»، تقدم أمامي يمر في طرقة ثم صالة كبيرة ثم ممر متوسط الحجم، ومنه وجدنا أنفسنا في «البلكونة». عندما جلسنا وجدني أضحك.. وقبل أن يسألني. حدثته عن اللقاء الذي رأيته فيه في مستشفى الهرم قبل سنوات، بالطبع هو لم يتذكر شيئاً، لكنه التزم الصمت قليلاً، وقال: أنت تعرف أنني قدمت أعمالاً كثيرة في الدراما والسينما والمسرح.. منها مسلسل «البوسطجي» عن رائعة عمنا يحيى حقي سنة 1974، و«أبواب المدينة» و«الأبرياء» و«كعب داير» و«الفراشات تحترق دائما» وغيرها من الأعمال الدرامية، لكن يبقى مسلسل «ذئاب الجبل» هو الأعلى حظًا في الانتشار الجماهيري، وحتى اليوم، يشير له الجمهور في أي مكان أتواجد فيه. قلت له: ولماذا حظي هذا العمل بهذا الإعجاب منقطع النظير؟ رد وهو ينظر إلى السماء قائلاً: أظنه الظلم.. ثم عاد وكررها ثلاث مرات «الظلم.. الظلم.. الظلم» ثم وقف في مكانه، وبدأ يتحرك يميناً ويسارًا وهو ينظر للفضاء الفسيح حولنا وأنا أنظر إليه، ثم قال: في مسلسل ذئاب الجبل، شعر المشاهد أن هناك صراعاً بين الخير والشر، بين العدل والظلم، بين الأمانة والخيانة، والمشاهد الذى تابع العمل كان ينتظر نهاية هذا الصراع، ويتمنى أن ينتصر فيه العدل، وينتصر الخير، وتنتصر الأمانة، على الشاشة، لأنه- فيما يبدو- كان يشعر أنه خسر الصراع في الواقع، بعدما حُسم لصالح الظلم على حساب العدل. استمر الحوار بيننا تقريباً 40 دقيقة، وقبل أن يعود لمواصلة التصوير، لفت نظري وقتها ونحن نتحدث أنه يلتزم الصمت كثيرًا وعيونه تنظر للسماء، وكأنه يشعر أنه في طريقه لمغادرة الحياة قريبًا، فهو زاهد في الشهرة وزاهد في النجاح.. وزاهد في الحياة بما فيها من حياة !

بعد شهور قليلة من هذا اللقاء، أصيب بالسرطان الذي جاءه في المخ دون سابق إنذار، ليبدأ بعدها رحلة العلاج في مستشفى معهد ناصر. وقتها فكرت أن أذهب إليه لإجراء حوار عن رحلة مرضه، وكانت وقتها حالته الصحية في تحسن مع بداية العلاج، وظهر إعلاميًا بصورة مكثفة وشارك في عرض خاص لفيلمه الأخير الذى قام ببطولته وإنتاجه «واحد كابتشينو» ومن قبل ذلك شارك في تشييع جنازة الفنان أحمد زكى الذى كان يحبه، منذ أن شارك معه في عدة أعمال سينمائية أبرزها فيلم «الامبراطور». بعد أسابيع عاد مرة أخرى للمستشفى ويومها قررت الذهاب إليه، في الطريق وأنا أسير على كورنيش النيل من أمام مبنى ماسبيرو في اتجاه معهد ناصر، تذكرت مشواره الفني القصير، الذي قدم فيه أدواراً مميزة في أفلام «الطوق والأسورة» و«وسواق الأتوبيس» و«المواطن مصري» كعلامات بارزة في تاريخه السينمائي وتاريخ السينما العربية. وقدم «عرق البلح» و«عفاريت الأسفلت» و«شمس الزناتي». أما بدايته في السينما فكانت مع الراحل يوسف شاهين مع صديق عمره الفنان المعتزل محسن محي الدين في أفلام «إسكندرية ليه» و«حدوتة مصرية» و«المصير» بعد هذه المرحلة انطلق وقدم العديد من الأعمال منها «شمس الزناتي» و«ديسكو ديسكو» و«حنفي الأبهة» و«الطريق إلى إيلات». وفى الدراما قدم مسلسلات «الطاحونة» و«نبع الحب» و«الفرسان» و«ذئاب الجبل» و«الوتد» وغيرها من الأعمال المتميزة، التى كان يختارها بدقة شديدة. كنت أسير بخطوات بطيئة على طريق الكورنيش في طريقي إليه ، وفي ذهني اللقاء الذى كان بيننا قبل شهور، عندما ذهبت إليه في مكان تصويره لعمل فنى- لا أتذكر اسمه الآن- يومها شعرت أنه ينتظر الموت، وأنه يودع الحياة، كنت أحدثه عن مشاريعه في المستقبل، فلا يرد! أحدثه عن نجاحه، فلا يرد! أحدثه عن الغد فلا يرد!

يومها شعرت أنه يهرب من الحياة، مثلما تهرب الفريسة من عين الصياد! بعد مشوار طويل وشاق من المشي على الكورنيش وصلت، صعدت إلى الدور السابع، اتجهت من خلال ممر يلهث فيه الموت ليقف على أبواب المرضى، إلى أن وصلت بالقرب من حجرته، ووقفت في مكاني.. بصعوبة حاولت إقناع نفسي في الدخول إليه، ونفسي ترفض الاستجابة. بعد دقائق لمحت ممرضة تخرج من حجرته.. تقدمت إليها، عرفتها بنفسي، ثم سألتها عن الحالة، سكتت قليلاً، ثم قالت: "ربنا يلطف به ويلطف بينا"! أسندت ظهري للحائط، ضغطت على الأوراق التي في يدي. لاحظت الممرضة حالتي. سألتها: هل أستطيع الدخول إليه؟ ردت بتأثر شديد: إنه يغيب عن الوعى كثيراً، ولا يفيق إلا لحظات قليلة، ثم أخذت طريقها وغادرت المكان. بعد دقائق عادت مسرعة وأنا مازلت في مكاني، سألتها: ماذا حدث؟ لم ترد، ثم دخلت إلى غرفته مسرعة، بعد دقائق خرجت بنفس السرعة التي دخلت بها، في هذه المرة اعترضت طريقها، قلت لها: ماذا حدث؟ قالت: تدهور خطير في الحالة، وسيتم نقله إلى غرفة العناية المركزة، ثم سقطت من عينها دمعة لا أنساها وهى تقول: "بجواره راديو يعمل على إذاعة القرآن الكريم ليلاً ونهاراً.."، ثم أكملت قائلة: "دخلت مرة إليه وهو في غيبوبة تامة.. القرآن يُتلى بصوت الشيخ عبدالباسط عبدالصمد.. وفجأة عاد إليه الوعي قليلاً وسمعته يردد: الحمد لله.. الحمد لله.. خلاص هانت! ثم عاد بعد ذلك وغاب وفقد الوعى مرة أخرى".. كانت تقول ذلك وهي تمشي بجواري عندما لاحظت رغبتي في مغادرة المكان حتى وصلنا إلى الأسانسير، وهناك افترقنا، هي صعدت للطابق العلوي تستدعي أحد الأطباء، وأنا أخذت طريقي للخروج من المستشفى. بعد دقائق وصلت إلى الكورنيش مرة أخرى عائداً، وتركت عبدالله محمود يستعد إلى رحلته الأخيرة، والتي يبدو أنه كان يستعد لها منذ سنوات. وصلت إلى بيتي، وبعد عدة ساعات رن جرس هاتفي: جاء صوت المتصل قائلاً «عبدالله محمود.. مات»! أغلقت الهاتف وأنا أنظر من نافذة حجرتي للسماء، فتطاردني ملامحه المصرية الأصيلة، وكأنه يرفض ـ رغم الموت ـ الغياب.

إعلان