إعلان

رسائل التهنئة المليونية

رسائل التهنئة المليونية

أمينة خيري
09:00 م الإثنين 28 أغسطس 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

مُنذ فرقعتْ الثورة الرقمية في وجوهنا وأنا على العهْد باقية. فلا رسائل تهنئة تُرسل لي وللآلاف غيري أرد عليها، ولا تمنيّات العافية التي تُوجَه إلى الملايين سواي أتفاعل معها. وتطوَّر الأمر واتَّخذ أشكالًا مختلفة، يسميها البعض قِلَّة ذوق وينعتها البعض الآخر بـ"انعدام الكياسة"، لكنَّها تبقى بالنسبة لي صراحة مع الذات ومكاشفة مع النفس.

نفسي تحدثني أن من يعتبرني رقمًا مُسجَّلًا على هاتفه المحمول، أو عنوانًا مدرجًا ضمن قوائم بريده العنكبوتي، لا يستحقُّ مني تكبَّد عناء الرد والشكر. ومع التقدم في العمر، والتحرك نحو مزيد من المكاشفة منزوعة المجاملة، بت أتضايق وأتكدر لمجرد رؤية رسالة على أي من مواقع التواصل الاجتماعي أو البريد الإلكتروني تنبئ بأن محتواها مخصصٌ للتهنئة الجماعية.

التهاني الجماعية –كتلك التي نُتابعها على شاشات التلفزيون متمنية لشعب مصر عيدًا سعيدًا أو رمضانًا كريمًا– مُخصصة لمن ليس في وسعه أن يدقَّ على باب كل بيت متمنيًا لأهله السعادة أو العافية. أما دوائر الأصدقاء والمعارف والمصالح فلا تخضع للمعايير نفسها.

معيار المحبة ومقياس المودة هو أن تبذل جهدًا إضافيَّا لتقول لمن تحبه أو توده: "كل سنة وأنت طيب". وقد يكون ذلك عن طريق مكالمة هاتفية تقول فيها لحسين صديقك أو شيماء زميلتك أو "طنط عنايات" خالتك: "كل سنة وأنتم طيبون".

وقد تكون كذلك عبر رسالة بريد إلكتروني أو عبر "واتس آب" أو غيرهما تبدأها بـ"عزيزي عمو فتحي" أو "حبيبتي طنط سعاد" أو ماشابه سائلًا إياهم عن صحتهم وحالتهم ومشكلاتهم التي تعرفها إلخ ومتمنيًا لهم عيدًا سعيدًا.

لكن سعادة الأعياد وبهجتها صار جزءٌ كبيرٌ منها مفتعلًا ومصطنعًا. المعايدات العنكبوتية التي تعتمد على عنصر الإبهار التقني أو تلك التي تدق على أوتار التدين المظهري أو هسهس التقوى حوَّلت جانبًا كبيرًا من أجواء العيد الاحتفالية والاجتماعية إلى مظهر جامد مصطنع لا يقل عن مظاهر التدين المصطنعة.

اصطناع أنَّك قمت بواجبك الاجتماعي عبر تهنئة آلاف البشر بالعيد، أو أرسلت خروفًا موسيقيًّا إلى قوائم الأصدقاء والمعارف، أو أعدت إرسال الرسالة السخيفة التي يقول عنوانها: "دي بقى لسه ماحدش بعتها لكم"، ربما يمدك بشعور كاذب بأنك جاملت الجميع.

واصطناع أنَّك أصبحْتَ في عداد المؤمنين وفي صفوف المتدينين عبر الإغراق في التمهيد لحلول يوم الجمعة من كل أسبوع، حيث معايدات تُبشر بأن اليوم الخميس هو اليوم المؤدي إلى يوم الجمعة الجميل، ثم إنَّ صباح اليوم هو يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، ثم إنَّ ظهر اليوم الجمعة، هو أبرك وأفضل وأحلى أوقات الأسبوع، لأنَّ صلاة الجمعة أوشكت، ثم أن عصر اليوم الجمعة هو أسمى العصور لأنه تلى صلاة الجمعة التي هي صلاة الجمعة المباركة التي تأتي في يوم الجمعة العظيم الذي يحلُّ بعد يوم الخميس من كل أسبوع إنما هو اصطناع مريع.

وقد راعني ما تطورت إليه أوضاع الأماني على "واتس آب" و"ماسنجر"، وغيرهما من صناديق التواصل، التي تتراكم فيها مئات ورُبَّما آلاف من الجمعة المباركة، والعشر الأواخر من رمضان، والأيام التي تسبق يوم عرفة، وتلك التي تليها، وغيرها كثير من التنويهات العنكبوتية التي غالبًا تُذيل بعبارات "كل سنة وأنت إلى الله أقرب".

والحقيقة أن القرب أو البعد عن الله سبحانه وتعالى أمرٌ شخصي بحت بين العبد وربه. لكنَّ هناك علامات وأمارات تَنُمُّ عن المسافة بين العباد والسماء. خذ عندك مثلا حال الشارع من حيث النظام والنظافة والسلوكيّات العامة، فكلما تدنت بعدت المسافة بين رواد هذا الشارع وبين الله سبحانه وتعالى، وهلم جرا. والله أعلم، وكل عام وأنتم مع الله أصدق ومع أنفسكم أجرأ وعن الرسائل المليونيّة أبعد!

إعلان