إعلان

"اللي ياكل من فاسه.. قراره من راسه"

"اللي ياكل من فاسه.. قراره من راسه"

عصام بدوى
09:01 م الأحد 27 أغسطس 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

"الفلاحة هي الوسيلة الوحيدة التي تضْمن بِها الدّول استقلالها الخارجي.. فلوْ كان لكَ ثَروات العالم كله، بينما ينقصك الطّعام، فإنك ستكون تحت رحمة الآخرين.. وتذكر أن التجارة تنتج لك الثروة، لكن الفلاحة تمنحك الحرية". من العبارات التي اشتهر بها الفيلسوف وعالم النبات السويسري جان جاك روسو.

"ويل لأمّة تلبس مما لا تنسج، وتأكل مما لا تزرع، وتشرب مما لا تعصر".. جملة اشتهر بها جبران خليل جبران الشاعر والكاتب والرسام اللبناني.

وعِندما سُئل شيخنا الإمام محمد متولي الشعراوي "رحمة الله عليه": متى تُصبح الأمة مستقلة في قراراها؟، فنظَر نظْرةَ المُشفق، وقال: يا بني.. من لا يأكل من فأسه، لا ينطق من رأسه.

عبارات، وأفكار بسيطة، تعامل معها المسئولون في مصر على مر الأزمنة السابقة، وكأنها شفرة من الصّعب فكَّها أو فهْمها، وظلّتْ لغزًا بالنّسبة لهم إلى أنْ أصبحتْ مصر تستوْرد أكثر من 70% من غذائها.

مصر التي كانتْ خزائن الحبوب في الأرض.. مصر القطن، وصاحبة أكبر بورصة للقطن في العالم.. مصر التي كانتْ تُنتج والعالم يسْتهلك.. مصر التي كانتْ جميع مصانع أوروبا تعمل على تصنيع محاصيلها.

مصر التي كانتْ، وعلى مَرِّ العصور تطعم جميع الدول، حتى أثْناء احْتلالها من قِبل الرومان وبعدهم البيزنطيين،كانت تُسدّد ضرائبها بالقمح والشعير والفول والكتان والزيتون، وكانت تُسمى ضريبة "الأنونا المدنية"، أو "الشحنة السعيدة"، لدرجة أنه في إحدى السنوات تأخرت الشحنة 10 أيام، فحدثتْ ثورة جياع في أوروبا كلها !!.

مصر هذه، أصبحت الآن تنوح وتولول شعبًا وحكومة، لمجرد قيام أمريكا بتخفيض المعونة بمقدار 290 مليون دولار، والتي تقدر إجماليًّا بمليار و300 مليون دولار سنويًّا، في حين إذ قُمنا فقط بزراعة القمح، واكتفيْنا ذاتيًّا منه سنوفر 4.7 مليار دولار سنويًّا لموازنة الدّولة، حيثُ نستوْرد سنويًّا بـ 3 مليارات دولار قمحًا، وبـ1.7 مليار دولار ذرة صفراء.. أي 3 أضعاف المذلة "المعونة" الأمريكية، في حين نستورد فول صويا وعباد الشمس بقيمة 1.3 مليار دولار، وخضار وفول وعدس بأكثر من 570 مليون دولار سنويًّا، بجانب استيراد ثلث احتياجنا من السكر بمعدل 619 مليون دولار.

لا أدري.. ما هي استراتيجية الأنظمة الماضية في تحويل مصر من دولة زراعية إلى دولة صناعية، وفي النهاية لم تبقَ زراعية، ولم تُصبحْ صناعية، ليس من العيب أن تكون مصر زراعية، فمعظم الصناعات الموجودة حاليًّا في مصر مجرد صناعات تجميعية، معظم موادها يتمْ استيرادها من الخارج، لذا لو أردْنا أن نُصبح دولة صناعية، فكان عليْنا بالتصنيع الزراعي، لأنَّها ستكون الصناعة الوحيدة التي تعتمد على مواد خام محلية مائة بالمائة، من نتاج أرضنا وبعرق فلاحينا، وتعفى مصر من ضغوط الدول المصدرة للخامات اللازمة للتصنيع.

ليس من العيب أن نعود للأصل وللأرض، فهولندا على سبيل المثال صنَّفها تقرير التنافسية العالمي بخامس أكبر اقتصاد تنافسي في العالم، وذلك لِكوْنها ثاني أكبر مُصدِّر للمنتجات الزراعية "بعد الولايات المتحدة الأمريكية"، فقطاع الصناعات الزراعية الغذائية فيها يُعدُّ أحد أكبر محفزات نمو الاقتصاد، حيث يضيف ما قيمته 52.3 مليار يورو إلى إجمالي الناتج المحلي الهولندي، وهو ما جعل 12 شركة من أكبر 40 شركة لصناعة المواد الغذائية والمشروبات في العالم تتخذ من هولندا مقرًّا رئيسيًّا لإنتاجها أو لمؤسسات البحوث والتطوير التابعة لها.

ورغم أن مصر تُعدُّ ثاني دولة على مستوى العالم في إنتاج الطماطم، بإنتاج 7 ملايين طن سنويًّا، إلا أنَّها لا تُصدِّر سوى 100 ألف طن فقط، وبهدر يفوق الـ 30% من المحصول، بسبب عدم وجود صناعات حاضنة لتلك الكميّات المهدرة، في حين تتصدر إسبانيا المركز الأول على مستوى العالم بإنتاج 9 ملايين طن، لكنّها تُصدِّر منه 6.5 مليون طن.

هذا الهدر، فتح شهية منظمة إيطالية بالاتفاق مع مزارعي أسوان بعمل مشروع لتجفيف الطماطم المهدرة، وإعادة تصديرها للخارج بـ 3 يوروهات للكيلو الواحد، ومنظمة أخرى عملت على تصنيع مسحوق الطماطم وتصديره أيضًا بالعملة الصعبة، بينما الحكومة والبنوك الوطنية بعيدة كل البعد عن تمويل ودعم مثل تلك المشروعات، التي انتبهتْ لها منظمات أهلية يفصلنا عنها آلاف الكيلو مترات.

حتى القطن طويل التيلة، الذي كان سفيرًا لمصر في جميع دول العالم، تراجعتْ مساحات زراعته من مليوني فدّان في السبعينيات إلى 99 ألف فدان في موسم 2016، وتركناه حتى قامت شركات، ومنها الهندية باستغلال اسمه وعلامته التجارية في بيع إنتاجها من الملابس المصنوعة من قطن بلادها، وعندما اكتشف المسئولون ذلك، اكتفوا بتأجير العلامة التجارية بمبلغ 5 آلاف دولار للشركة الواحدة، بل أصبحنا نستورد أقطانًا بما قيمته 740 مليون دولار، بحجّة أن طويل التيلة لم يُصبح مطلوبًا عالميًّا، وأن تصنيعه أصبح مكلفًّا.. كيف وشركات عالمية تتسابق على وضع علامة "قطن مصري" على منتجاتها؟.. كيف نتخلَّى بكل سهولة عن تراثنا وعلامتنا لصالح مافيا الاستيراد؟

الحل يَكْمُن في عودة مصر للأصل.. للطين.. للبذرة.. للون الأخضر، فالقوة الحقيقية هي امتلاك غذائك.. وليس المنح والقروض ومعونات الخزي والعار.. حتّى أنَّ ألعاب الكمبيوتر الخاصة بالحروب الاستراتيجية، والتي يلعبها معظمنا، تبدأ جميعها بالزراعة ثم بناء المدن والجيوش.. جمعينا نلْعبها لكن لا نفهمها.. وبِذَلِك ينْطبق عليْنا المثل الشعْبي القائل: "ابني على كتفي وماشي أدوّر عليه".

إعلان