إعلان

الحاج ''صبري''.. ''أمين سر'' أحلام نجيب محفوظ

12:55 م الأحد 31 أغسطس 2014

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتب- أحمد الليثي ويسرا سلامة:

كانت الكتابة بالنسبة لـ''محفوظ'' خلوة، لا يكسرها سوى القارئ، يعهد إليه بكل عمل جديد دون أن يطلع عليه أحد، غير أن شخصًا وحيدًا كسر تلك القاعدة، فبات وسيطًا بين ''محفوظ'' وقارئه، يملي عليه الكلمات فيدونها سريعُا، تخرج من ذهن الأديب الكبير كمن يقرأ من كتاب مفتوح، عشر أحلام فقط كتبها ''محفوظ'' في فترة النقاهة، قبل أن يستحوذ الحاج ''محمد صبري'' على تلك الميزة، ليكتمل العدد بأكثر من خمسمائة حلم، نشرتها مجلة ''نصف الدنيا'' تباعًا مع أواخر التسعينيات، وحتى رحيل ''محفوظ'' قبل ثماني سنوات.

في لحظة وجل تساءل الأستاذ ''نجيب محفوظ'' عن شخص يقرأ له الصحف عندما أضحى بصره ضعيفًا لا يقوى على القراءة وحيدًا، فجاءته الترشيحات جمعاء في شخص واحد، هو الحاج ''صبري''، وقتها كان الرجل الأربعيني سكرتيرًا لمكتب الأستاذ ثروت أباظة، وكانت كنيته في مبنى الأهرام ''صبري بتاع مكتب ثروت''، ورغم العلاقة الشديدة بين أباظة وسكرتيره، كان لا يرد سؤالًا لمحفوظ ''بدأت معاه سنة 86، وكان بيجي الأهرام 3 أيام عشان أقراله الجرنان''، يحاول الحاج ''صبري'' الذي وصل عامه الخامس والسبعين استرجاع الأيام الأول لعلاقته بالأستاذ ''نجيب''.

في العشرينات من عمره كان عشقه الأول هو القراءة الأدبية، واشتد ولعه بالأستاذ ''يوسف السباعي''، وحين سأل أمين المكتبة الكائنة بحي القلعة عن عنوان يعينه على لقاء السباعي ''اكتشفت إن ما بيني وبينه عشرة متر، كان مدير المتحف الحربي في القلعة''، كان اللقاء الأول بالسباعي غير مسبوق، حيث عرض عليه أن يرافقه إلى نادي القصة، فكانت البداية كسكرتيرًا للمكان، ولم تنته؛ فلم يكن عم ''صبرى'' مجرد سكرتيرًا لصحفي داخل الأهرام أو أديب كبير، لكنه كان وريث المفكرين، كما يقال عنه داخل الأهرام، بدأ مع ''يوسف السباعي'' وانتقل إلى ''توفيق الحكيم'' وصار ملازمًا لـ''ثروت أباظة'' قبل أن يستقر به الحال مع ''محفوظ''.

لم يكن دور عم ''صبري'' يتوقف عند حدود كتابة حلم الأستاذ، فكان يقطع الطريق إلى مجلة ''نصف الدنيا'' ليسلم الأستاذة ''سناء البيسي'' رئيسة التحرير وقتها عدد ثلاثة أحلام عند كل زيارة، فيراجعه سويًا ما كان يصفه ''محفوظ'' بالمذكرة التفسيرية، فتدون ''البيسي'' الحلم وتعيده ثانيًة برفقة ''صبري'' إلى الأستاذ ''نجيب''، فتتبدل الأدوار، ليضحي السكرتير ناطقًا والأستاذ مستمعًا.

''الأهرام'' كانت عشق ''محفوظ'' الأبدي، لا يقرأ سواها، يصر على ''صبري'' أن يقرأ له تفاصيل كل ما تقع يد ''محفوظ'' عليه بالإشارة، فيلبي ''صبري'' الأمر، بعد فوز ''محفوظ'' بنوبل لم يعد الأمر مقتصرًا على قراءة أخبار الشأن العامل، فبات لـ''نجيب'' نصيب غير قليل من الأخبار، تتابعه الصحف الأجنبية والعربية وتنشر عنه كل تفاصيله باللفتة، يقول الرجل السبعيني بدعابة ''قلتله في مرة أنا بتابعلك كل أخبارك، ولو فات حاجة أنا هدفع جنيه.. على قدي''، يصمت ''صبري'' لبرهة قبل أن تنتابه موجة ضحك وهو يكمل ''فمرة قلبت الجرنان غلط ففاتني خبر، ولما قلتله تاني يوم كان فيه حاجة مهمة نسيت أقرهالك..قالي ما أنا عارف يا أخويا''.

حاول الحاج ''صبري'' غير مرة أن يختبر ذاكرة الأديب، فكان يبدأ جلسة الأحلام بذكر ترتيب الحلم، فيما كان عقل ''محفوظ'' حاضرًا بقوة، رغم طعونه في السن ''حاولت مرة أقوله ياللا يا أستاذ نبدأ الحلم 27.. فقاله لأ..ده رقم 26''.

حلم وحيد كان مقرب إلى قلب الأستاذ و''صبري'' يفضل ''محفوظ'' تكراره على مسامع سكرتيره كلما أحب أن ينتزع من قلبه الضحكات، يحب ''صبري'' أن يحكي قصته حسب التذكر، فيقول وهو يحاول استرجاع الذكريات ''كان حلم بيتكلم عن واحد زار شخص في بيته، فوضع صبق وملعقة دون طعام، فحين استغرب الضيف وضع له صاحب المنزل ملعقة صغيرة من الطعام، فزاد استغراب الضيف متسائلًا ''هو ده هيكفيني؟'' وسط صمت صاحب المنزل، قبل أن يقرر الضيف مغادرة المكان، وحين حاول صاحب المنزل أن يسأله عن وجهته، جاءت الإجابة رايح أكل في مطعم''.

''صباح الخير يا نجيب بيه'' يبدأ بها عم ''صبري'' اللقاء المعهود، فيما يأتي الرد من الأستاذ بكلمة واحدة لا تتبدل ''أهلًا''، كان يرد بها على كل من يلقى عليه السلام، لسهولة العبارة ولسمعه الضعيف، عادات ثابتة للأديب لا يغيرها، يرتدي نظارته سميكة العدسات، ويبدأ في الميل نحو سكرتيره كي ينصت لما يقرأه ''صبري''، يطلب منه قراءة صفحة الوفيات، وكان يطلق عليها صفحة الواجب ''كان أول واحد يبعت برقية لأي شخص يحصل عنده حالة وفاة..كان صاحب واجب وبيفهم في الأصول''، فيما كانت الملحقات الأدبية على صفحات الأهرام دأبه الدائم، ''وفي أواخر أيامه الغيطاني والقعيد كانوا بيجبوله بعض الصحف غير الأهرام، وكان بيطلع عليها على الماشي''.

لم يفوت الحاج ''صبري'' موعد للأستاذ، حتى حين أصيب الأديب الكبير في محاولة اغتياله 1994، كان ''صبري'' يرافقه في منزله، مع دقات الثامنة والنصف، كان الحاج ''صبري'' يجلس على كورنيش العجوزة يستنشق نسمات الهواء، استعدادا لموعده المنظور في تمام التاسعة، ''لما مرة اتأخرت عليه عشر دقائق قالى خير.. كان عقله يقظ ومنظم جدا جدا''، في إحدى المرات نسى الحاج ''صبري'' نظارته الشخصية فاعتذر للأديب الكبير عن القراءة، فلم يستجب الأستاذ للعذر، فراح يخرج له نظارة مكبرة يستعملها للإعتماد على نفسه في بعض الأحيان، المرة الوحيدة التي تخلف فيها ''صبري'' عن الزيارة عندما وقع له حادث أثناء ركوبه الأتوبيس، فيما كانت سيارة الأهرام وسيلته في المرات التالية للذهاب إلى منزل الأستاذ ''نجيب'' ''كنت بدفع 7 جنيه اشتراك لعربيات الأهرام عشان اضمن أروح في معادي بالتمام''.

على صفحة واحدة يكتب ''صبري'' حلم ''محفوظ''، برقم مدون عليها ''كتبنا أحلام كتير أوي بس مش كلها اتنشرت.. فيه حاجات كان بيراجعها وحاجات تانية ظلت حبيسة الأظرف''.

الوفاء، هى الصفة الأهم لـمحفوظ من وجهة نظر ''صبري''، يروي الرجل السبعيني عن لقاءات الدور السابع بالأهرام في غرفة الأستاذ ''توفيق الحكيم''، ظل الأديب محتفظًا بتلمذته على يد الحكيم حتى بعد رحيله، ''لما خد نوبل كانت الوكالات العالمية بتيجي تصور معاه جوا غرفة ''الحكيم''، فكان بيرفض يعد على مكتبه ويفضل الجلوس على الكنبة المقابلة للمكتب، ويقول الأستاذ توفيق له مقامه حتى لو مش موجود بينا''.

''ألف جنيه مرة واحدة'' كانت نصيب ''صبري'' من الأستاذ لحظة توقيعه على عقد دار الشروق لنشر أعماله ''قالي دي حلاوة الإمضاء''، قبلها بيوم واحد كان أحد الناشرين العرب يزور ''محفوظ'' عارضًا عليه شراء الحق الأدبي لأعماله غير أن علم الأستاذ ''محمد سلماوي'' والمهندس ''إبراهيم المعلم'' بالأمر قلب التعاقد رأسًا على عقب، فكانت ''الشروق'' صاحبة الحق حسب رواية ''صبري''.

الحرافيش كانت أكثر الأعمال قربًا إلى قلب ''نجيب محفوظ''، يتحدث عنها كثيرًا أمام الحاج ''صبري''، كان يفند ''صبري'' مآثر أديب ''نوبل'' ''كان بستانًا ينعًا متقد الذهن، فيه كل الخيرات، لا تعرف أي الورود تقطفها من حديقته، ودود، سمح، بشوش، كله حكمة، وكانت كلماته العادية كمن يقرأ من كتاب أدبه بليغ''، ويعدد ''صبري'' تفاصيل الأديب ''كان بيسيب في القهوة أكتر ما بيشرب، وكان بيموت في الطعمية''.

حاول ''محفوظ'' أن يستند على باب غرفته، فخانته الرؤية، ليسقط مغشيًا عليه، كانت تلك هى آخر لحظات الأديب في منزله، قبل أن ينتقل إلى المستشفى يتذكر ''صبري'' تلك التفاصيل العصيبة التي أفضت إلى دخول ''محفوظ'' إلى غرفة العناية المركزة، حينها بكى ''صبري'' حزنًا وألمام ووفاءًا وكمدًا على الرجل الذي رافقه عشرين عامَا كاملة، تخللتها إنجازات للرجل وأحلام كان ''صبري'' الشريك الأول فيها.

عقب رحيل ''محفوظ'' بأيام توجه ''صبري'' إلى منزل الأستاذ بالعجوزة ''عايزين أحلام لنصف الدنيا''، سؤال طرحه فجاءت الإجابة ''مفيش غير حلمين وبس'' لتنتهى مسيرة الأحلام، فيما كان الود موصولًا بين السكرتير وأستاذه بعد الرحيل، فلا يزال يلهج لسانه بالدعاء بالرحمة للراحل وهو يتذكر في شكر وعرفان ''كان سايبلي 2000 جنيه مع مراته كأنه لسة موجود.. وفضلت الأحلام جوا الدرج''.

 

بالصور: بعد 20 سنة.. مصراوي على أرض المعركة التي خلفتها ''طعنة'' محفوظ


أرض المعركة

رسول العناية الإلهية لـ''محفوظ''.. جراحة على شرف ''مطواة''

رسول العناية الإلهية

يد محفوظ.. صديقته التي تعلمت الكتابة في الثمانين

يد محفوظ

''عبد المجيد''.. درويش ''محفوظ'' في دنيا الله

محفوظ في دنيا الله

مصراوي يرصد حكاية 4 أشخاص لازموا نجيب محفوظ ''ساعته الأولى''

حكاية 4 أشخاص لازموا نجيب محفوظ

عم إبراهيم.. الرجل الذي هزم ''نجيب محفوظ'' في ''القافية''

عم إبراهيم

رفاق ''محفوظ'' في العالم الموازي: ''نجيب'' الأول دائما

العالم الموازي

''عين'' نجيب محفوظ تروي لـ''مصراوي'' ذكريات الأديب

ذكريات الأديب

حجي.. الرجل الذي رسم أحلام ''محفوظ'' ولم يراه

حجي

 

لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة.. للاشتراك ...اضغط هنا

فيديو قد يعجبك: