إعلان

كيف غيرت إجراءات الإغلاق الحياة على "شط إسكندرية"؟

11:29 ص الأربعاء 10 يونيو 2020

شط إسكندرية

تقرير – مارينا ميلاد

تصوير – حاز م جودة

إنفوجرافيك – مايكل عادل

في تلك اللحظة، استيقظ علاء. فرك عينيه بإحدى يديه، والتقط هاتفه بالأخرى في حالة من الخمول الشديد. وجد الساعة قد بلغت السابعة مساءً، الأمر الذي يزعجه، ويرهقه كل يوم؛ فلم يكن هذا ميعاد استيقاظه المعتاد طوال 20 عامًا وأكثر، عَمل فيها دون توقف بالشاطئ الذي يستأجره هو وعائلته من محافظة الإسكندرية. لم يشهد طيلة هذه المدة غلقه، لكن حضور فيروس كورونا هذا العام أغلق مكان عمله وقلب نمط يومه.

الأسبوع الثاني من يونيو، الجو معتدل في الإسكندرية، لكن لا زوار في مقاهيها وشواطئها ليستمتعوا به. لا مستأجرين يملأون شُققها التي صارت فارغة مطفأة الأنوار. ولا زبائن تأتي إلى مراكب التنزه المتراصة في الموانئ، بينما يحاول مسؤولو المحافظة الحفاظ على مواردها فيطرحون شواطئ جديدة للإيجار ، رغم مرور 73 يوما على إغلاقها.

لقد توقف زحام شواطئ الإسكندرية وصخبها وحركتها، وتوقف معها نظام اقتصادي قائم ومتبع داخلها منذ سنوات، يقره الجميع ويلتزمون به، قبل أن يباغتهم كورونا وينهار كل شيء!

"إحنا زي ما بيقولوا زي السمك في الميه منطلعوش منها"..

يقول علاء جمعة (36 سنة) واصفا ارتباطه بالبحر قبل أن يصبح مستأجرًا للشاطئ بسنوات طويلة، تحديدًا عندما كان عمره 7 سنوات ويجري من مدرسته إلى بيت العائلة في ميامي ليبدل ملابسه سريعًا ويذهب إلى شاطئ العصافرة الذي كان يستأجره والده لمدة 17 عامًا.

وقتها؛ بدأت قصته مع عالم الشاطئ وتعلم من والده كيف يدير، ويتعامل، ويتحمل.

1

يتذكر علاء المبلغ الذي كان يدفعه والده للمحافظة مقابل حق استغلاله الشاطئ وهو 35 ألف جنيه، الذي زاد تدريجيا مع الوقت حتى وصل في إحدى السنوات إلى 200 ألف جنيه ممثلا صدمة كبيرة لهم آنذاك. واليوم يدفع علاء 2 مليون جنيه للسنة الواحدة بنظام تأجير لثلاث سنوات.

كان الشاطئ في زمن والده مغايرًا تماما للشاطئ الذي يعرفه اليوم: الأجواء أهدأ، المنتجات أرخص، المكسب أكبر، الناس أقل، وينتمي أغلبهم إلى طبقات اجتماعية مختلفة تمامًا عن اليوم. يصفهم علاء بـ"الزباين اللي بتريح".

يقصد علاء بهذا الوصف هؤلاء الزبائن الذين كان يعرفهم. ينتظر مجيئهم إليه يوميًا حاملين كراسيهم وشماسيهم الخاصة قبل أن يُمنع ذلك. هؤلاء الذين تكونت علاقة ثقة بينهم وبينه؛ فأصبح من الممكن أن يحصل على حسابه منهم بنهاية الأسبوع وليس كل يوم: "دلوقتي دول مشوا راحوا أماكن تانية زي الساحل. بقت الناس اللي بتجيلي عدد أكتر لكن فيهم ناس مُتعِبة، ممكن يحصل مشكلة منهم تخسرني إيراد يومين!".

حتى هؤلاء "الزبائن الحديثة على علاء" عزف بعضهم عن الذهاب إلى شاطئه بعد إنشاء نفق أمامه وطول مسافة العبور للوصول إليه. ما يقول إنه خسر بسبب ذلك ما لا يقل عن 50% منهم.

"أيا كانت الظروف والتغيرات إحنا طول السنين دي بنعيش على موسم الصيف يعني مثلا لو حد فينا قرر يتجوز يحسبها بالربح بتاع الموسم، مثلا يجهز نفسه على 3 سنين".

صورة قديمة

لدى علاء الآن حوالي 3000 كرسي وهي سَعة شاطئه؛ كان يُخرج منها في اليوم الواحد خلال الموسم ما بين 1000 و1500 كرسي لمصيفين يدفع الواحد منهم 12 جنيهًا مقابل دخوله، ويكسب من ورائهم ما بين 15 لـ 18 ألف جنيه يوميًا، يخرج منها رواتب ومصروفات تشغيل.

بخلاف علاء، ينتفع أكثر من 500 شخص معه أغلبهم من خارج الإسكندرية. مع العلم أن إدارة السياحة والمصايف قدرت عدد العاملين الرسمي بكل الشواطئ بـ1500 فقط لكن يقول محمد فؤاد، المستشار الإعلامي للمحافظة، إن "نسبة كبيرة منهم تأتي إلى من المحافظات يستحيل حصرها".

جرافيك 1فأخذ إبراهيم الشلقامي (31 سنة) طريقه من الصعيد إلى الإسكندرية منذ 6 سنوات عندما تزوج؛ بدأها بالعمل في أحد المصانع حتى اتجه قبل عامين للعمل مع علاء بالشاطئ الذي بدا له مزدهرًا ومغريًا. ومن بين مهام الشاطئ الموزعة على مئات العمال كان من نصيبه الوقوف على البوابة لتحصيل التذاكر .

2

لا يقل عدد الواقفين على البوابة الواحدة للشاطئ عن أربعة أفراد – بحسب إبراهيم – ما يعني أنه واحد من 20 شخصًا تقريبًا موزعين على خمس بوابات. يقضي الواحد منهم 12 ساعة في اليوم يحصل مقابلها على 150 جنيه.

بعد أن تجتاز الأسرة البوابة التي يجلس عندها إبراهيم؛ يستلمها محمود عبد الحكم (21 سنة) ليضع لها الشماسي والكراسي، لكن عليه ألا يتعدى المساحة المسموح له العمل بها والمتفق عليها مع علاء، والتي يسمونها "البوسطة" وتعني "كل 10 شماسي على عرض الماء يتولاها 4 أفراد".

ذلك الدور يؤديه محمود منذ كان عمره 15 سنة عندما جاء مع أخيه وأبناء عمه الذين عرفوا طريق شواطئ إسكندرية كمصدر رزق يستحق أن يقطعوا له طريقا طويلا من سوهاج.

أدرك محمود ذلك، واستغل فرصة إجازته من المدرسة كل عام ليأتي إلى الإسكندرية في موسمها الأكبر متبعًا نظاما ثابتا: يؤجر شقة قريبة من الشاطئ مع 10 آخرين مقابل 3000 جنيه شهريًا تقسم عليهم، يحاول أن يدخر قدر ما يستطيع ليخرج بحصيلة الموسم التي يقدرها بـ 10آلاف جنيه، ويساعد بها في مصاريف دراسته التي أكملها على هذا النحو حتى أصبح في عامه الثالث بكلية الآداب.

وبعدما ينتهي محمود من ترتيب الكراسي والشماسي؛ يأتي دور "بلدياته" أحمد مخلوف (35 سنة) ليمر على الأُسرة ويعرض عليها الملابس الحريمي التي يحملها على كتفه، وقد اشتراها من مصنع بالعصافرة بسعر الجملة.

وفقًا لنظام الشاطئ؛ يدفع أحمد مبلغًا لعلاء ليسمح له بالتحرك وبيع منتجاته هكذا. لم يكن ذلك متبعًا عندما بدأ أحمد هذا العمل مع والده منذ 25 عامًا، لكن تغير الوضع برمته منذ حوالي 10 سنوات، ووصل المبلغ الذي دفعه في آخر موسم إلى 20 ألف جنيه يتم تقسيمها على بائعي نفس السلعة وهم 3 أو 4 أشخاص.

في نهاية الأمر، يخرج أحمد بمكسب من 150 إلى 200 جنيه في اليوم؛ لأجلها يرضى بهذا النظام ويتحمل مشقة الحفاظ على بضاعته من الرمال والمياه التي يضربها المارون بأرجلهم.

3

وسط كل هذه الحركة، لا يهدأ علاء منذ السابعة صباحًا وحتى المساء. يبقى يقظا منتهبا ليحول دون وقوع سرقات أو مشاجرات بين الزبائن وأحد العاملين أو البائعين: "أتعلمت من أبويا أن أهم حاجة في الشغلانة دي أحتوي المشكلة مخلهاش تكبر حتى لو الزبون رفض يدفع، لأنه لو رحنا القسم هخسر أكتر من اللي هو مدفعهوش خاصة إن النظرة لينا مش كويسة".

يتوقف علاء عن حركته عندما تتعالى الأصوات والصفافير وترفع الأيادي بالإشارات من داخل البحر باتجاه عمر عماد، الشاب الواقف متأهبًا على الشاطئ لإنقاذ الغارقين.

4

يقفز عمر سريعا في البحر لإنقاذ أحد الشباب. 8 سنوات من عمره البالغ 25 عاما قضاها هكذا؛ جعلته معتادًا وأكثر ثباتا. لكن ذلك لا يمنع إدراكه خطورة مهنته التي ورثها عن أبيه وعمه: "بشوف الموت بعيني ورغم إني متدرب كويس لكن البحر بيفاجئنا". لكنه يجني من تلك المخاطرة اليومية خلال أشهر الصيف 3000 جنيه شهريًا، بالكاد يتحصل على نصف هذا المبلغ بقية شهور السنة.

وعمر من القليلين الذين يقال عليهم في الشاطئ "من أهل البلد" وسط نسبة كبيرة من العمال القادمين من محافظات الصعيد تحديدا سوهاج. يعمل معه مراقب آخر ويتولى كل منهما مساحة 50 مترا.

وبعد أن ينجز عمر مهمته ويخرج ممسكا بالشاب الذي كان يستغيث؛ يطمئن علاء ويواصل عمله مجددًا.

5

جاء كورونا ليعطل ذلك النظام بأكمله: زائرين، شواطئ ومحال، عاملين من أهل البلد وخارجها. أفسد مخططات الجميع، وبَدل الحياة تمامًا.

بات علاء يبدأ يومه ليلا، ويداهمه ساعات الحظر سريعًا فلا يستطيع فعل شيء حتى إن المقهى الذي أنشأه استعدادا لهذا الموسم مُغلق مثل الشاطئ؛ فتراكمت ديونه.

6

ورغم أنه استعد لأي ظروف صعبة قد تطرأ على الشاطئ بتأسيسه معرضا للنجف والأنتيكات ليكون مصدر رزق أكثر استقرارًا، فإنه أيضًا لم ينفعه بدرجة كبيرة في هذه الأيام: "الشغل مريح واللي داخل على قد رواتب العمال والكهرباء. تقريبا مش بيدخل بيتي ربح من شهور".

يتبقى لديه الآن في الشاطئ 3 موظفين يبدلون مع بعضهم لحراسة البضاعة داخله؛ فتكلفة الكرسي الواحد أصبحت 170 جنيها. لم يتم اختيار إبراهيم الشلقامي ضمنهم، لذا فقد وظيفته التي كانت ما بين تحصيل تذاكر الزائرين صيفا والحراسة شتاءً.

فكر في الرجوع إلى مصنع عمل فيه قبل ذلك، فوجده مغلقًا، سأل بمحال البقالة فأخبروه بعدم حاجتهم: "أنا مش مرتبط بشغلانة البحر، ممكن أشتغل أي حاجة لأن عندي مسؤولية، وحتى مش معايا مؤهل عالي يساعدني".

لذلك اضطر إبراهيم لترك الشقة التي يؤجرها بـ600 جنيه، والانتقال مع زوجته وابنه إلى شقة أخرى بمنطقة شعبية يقل إيجارها 200 جنيه عن الأولى.

أما محمود عبد الحكم الذي أوقف كورونا دراسته في كلية الآداب ثم عمله الموسمي، هاتف "الريس علاء" – كما يناديه - في بداية الأزمة؛ فأبلغه بألا يأتي إلى الإسكندرية حتى تتضح الصورة. انتظر شهرا ثم الثاني ومع زيادة الإصابات كل يوم، انقطع أمله.

حاول أن يبحث عن عمل آخر في سوهاج مثل إخوته الثلاثة الذين لهم مهن أخرى ما بين شركات وأرض زراعية؛ إلا أن الأمر أصبح صعبًا الآن، يقول إن الشركات والمصانع مغلقة.

سيستمر محمود في عمله بالإسكندرية كل موسم إلى أن يتخرج ويجد وظيفة: "لسه سنة جامعة وجيش وسكة طويلة عقبال مالاقي وظيفة".

على عكسه، لا يزال لدى أحمد مخلوف أمل في فتح الشواطئ قريبًا. ينتظر اتصال "الريس علاء" ويستعد للسفر من سوهاج في أي لحظة إن حدث: "دي الفترة اللي بستناها وبسترزق فيها. باقي السنة ممكن أشتغل فواعلي لكن حتى دي مش موجودة دلوقتي".

8

يخرج عمر عماد من بيته للسير من حين إلى آخر، يقلب الأمر في رأسه ولا يجد بديلا غير عمله منقذًا على الشاطئ. يتقابل عمر مع علاء أحيانا إن مر عنده؛ يتأملان سويًا الوضع الذي أصبح سخيفًا وثقيلا على الجميع: هل هذه ميامي المزدحمة الصاخبة؟! يقول صموئيل ميخائيل الذي يعمل سمسارًا في هذه المنطقة منذ 8 سنوات: "الدنيا ميتة. في الوقت ده كنا بنأجر على البحر بـ1500 في اليوم وأكثر، لكن دلوقتي بـ500 و600 وممكن أقل".

وفي أبو قير القريبة، تتراص حوالي 30 أو 40 مركب نزهة بجوار بعضها؛ منها مركب ناصر عنوس (45 سنة) الذي توقفت رحلاته تماما، كما أنه لم يستطع تحويلها لمركب صيد بالشباك بسبب رخصتها: "طول 15 سنة اشتغلتها معدناش بالظروف دي. كنا ممكن نقف 7 أو 8 أيام بالكتير بسبب مناورات في البحر، لكن المرة دي طالت. ومنعرفش شغلانة غيرها نشتغلوها".

ينتظر ناصر وزملاؤه حاليا زبائنهم من هواة الصيد في عرض البحر بعد منعهم من الشواطئ. لكن هذه المسألة اختلفت أيضًا؛ فكان المركب الواحد يؤجره نحو 10 أفراد، صاروا الآن 4 أو 5 بسبب التباعد الاجتماعي.

9

37 مليونا و243 ألف جنيه دخل محافظة الإسكندرية من تشغيل شواطئها، وبالتالي هي الخسارة الاقتصادية المتوقعة بنهاية الموسم نتيجة إجراءات الإغلاق إن استمرت؛ ذلك بحسب اللواء جمال رشاد، مدير الإدارة المركزية للسياحة والمصايف بالإسكندرية في رده على "مصراوي".

جرافيك 2جرافيك 3

ورغم ضبابية المشهد الذي تعيشه المحافظة كغيرها؛ كون عملية إعادة فتح الشواطئ لم تخرج عن نطاق مناقشاتهم؛ فقد طرحت 7 شواطئ جديدة للإيجار في مناقصات أيام (13، 14، 17، 19، 20) مايو الماضي، وأعلنت تفاصيلها عبر موقعها الرسمي. وقد فسر محمد فؤاد، المستشار الإعلامي للمحافظة، ذلك: "لن يبدأ احتساب مدة إيجارها إلا مع بداية التشغيل الفعلي، لذلك لم يجد المستأجر مشكلة، خاصة وأنه ينتظر رواجا كبيرا إذا فُتحت"، موضحًا أن الأسعار زادت على السنوات السابقة لزيادة موارد المحافظة.

جرافيك 4

أخذت الإسكندرية حصتها من الواقع الغريب الذي فرضه كورونا على العالم. تلك المدينة التي وصفها إبراهيم عبد المجيد في روايته: "لا أحد ينام في الإسكندرية" بأنها "تتسع تزدحم يدخلها الغرباء من كل المسالك حتى صارت ميناء حقيقيا" أصبحت الآن هادئة وخالية من غربائها. يضيق الحال على من فيها كعلاء الذي يلاحقه مكالمات عماله طالبين سُلفا مالية.

هجر الرجل السير على البحر، لأول مرة، لسوء حالته النفسية: "إحنا لو ماموتناش من كورونا هنموت بسبب حاجات تانية". لذلك صار يتمنى الفتح بأي طريقة حتى وإن كان مصحوبًا بإجراءات أشارت لها المحافظة كقلة الأعداد والتباعد، لكن مقابلها ينتظر تعويضا عن الفترة السابقة بزيادة مدة الإيجار أو تخفيف السعر في الفترة القادمة.

فيديو قد يعجبك: