إعلان

مّد الثورة إلى الصعيد.. "مجراية" الثقافة والسينما في "ملوي"

01:49 م الأحد 10 فبراير 2019

فريق مشروع مجراية في المنيا

كتبت- شروق غنيم:

لم يتمهّل حمادة زيدان في قراره، حين قامت الثورة وجد نفسه في الميدان. قبل ثمان سنوات، كان الاغتراب حال الشاب الصعيدي، مكث في القاهرة بسبب عمله، امتهن الصحافة غير أنه لم يحتَك بالشارع، انهمك في أعمال مكتبية لم تكن مُحببة إليه، لكنه عثر على ذاته وسط الجموع، في هتافاتهم ومطالبهم، وفي الحادي عشر من فبراير حين تحرر الوطن عاد فرحًا إلى موطنه المنيا، غير أن استقبال والدته له غيّر دّفة حياته.

أخبرته أمه أنها لا تعرف ماهية الثورة "عرفت وقتها إن مليش مكان في القاهرة خلاص، وإن أهلي وبلدي محتاجين يشوفوا الثورة". ولكن كيف يشعر أهل ملوي بالحدث؟ لم يكن في نفس زيدان سوى ما كانت ترنو إليه مطالب يناير؛ حياة أفضل، وعي يُثمر أجيال تشّق طريقها بحُرية، تعبر عن نفسها فتُحدِث التغيير.

اتسع ميدان التحرير لكافة التوجهات الفكرية، تلمّس زيدان ذلك، لكن في بلدته ملوي لم يكن ثمة براح لناسها. في تلك الفترة حيث نشطت فعاليات المجتمع المدني، انغمس الشاب الثلاثيني في فعالياتها، طاف على قرى صعيدية، يتعرف على مشكلاتهم، يلتمس معهم الحلول، فما كان منه إلا أن قاد حملات توعوية في أكثر من قرية.

لا ينسى الشاب الثلاثيني حين زار قرية البرشا في المنيا، اقترب من معاناتها بسبب انغلاق المركز الصحي، فما كان منه إلا أن نقل لهم أجواء الثورة والميدان التي غابت عنهم "اشتغلنا على حملة عشان يتفتح، ما بين مظاهرات أو رسوم جرافيتي لحد ما تم الاستجابة لمطلب الأهالي".

1

داوم زيدان على الحملات التوعوية في قرى المنيا، بالإضافة إلى انخراطه في صالون ملوي الثقافي لكن ظل يلازمه شعور بأن ثمة شيئًا ناقص "الصالون مبيوصلش لكل الناس لإن مفيش أنشطة تمسُهم، حسيت وقتها إني عاوز أعمل مشروع يجمّع الناس ويكون متنفس لأحلامهم". فكان مِجراية.

وضع زيدان وشريكه فلسفة المشروع في اسمه "مجراية بتتقال على مِجرا (وصلة) المياه اللي بيفتحوها من النيل للأرض، دي نفس فكرتنا إن يبقى في وصلة بين اللي بيحصل في القاهرة ولبلدنا البعيد عن أحداثها، وفي نفس الوقت مجراية لفكرنا إحنا، يبقى لينا المساحة اللي بنعبر فيها على نفسنا". بحث عن دعم مادي لخطوته الأولى "مركز اختيار دعمنا بإيجار المكان".

2

من غرفة صغيرة بدأ الحلم في أكتوبر عام 2014، أراد ابن المنيا أن يكون مشروعه وِصال بين العالم الثقافي والفني وأهل ملوي "فعملنا حفلة اسمها مُحرم بابة، على اسم الشهر العربي والقبطي وكانت عبارة عن إنشاد وترانيم". كانت الفعالية حديثة على أهل البلدة "في ناس شايفة إننا شباب هبلة"، غير أن المكان الذي كان يتسع لقرابة 30 فردًا فقط، امتلأ في أولى فعالياته، فيما نظموا تِباعًا نادي سينما للبلدة المحرومة من دور عرض.

3

لم تُغادر معاني الثورة أصحاب المشروع، ظلّت تلازمهم بأشكال مختلفة "لما حد بيحب يعبر عن نفسه في الفن بيروح للمسرح". غير أن ملوي لا تضم مسرحًا، لكن بداخل بعض شبابها الإيمان بالتجربة، بعضهم يحمل بداخله حلم الصعود على خشبة المسرح والتمثيل، وآخرين خاضوا تجربة التمثيل بشكل منفرد "لقيت ناس متحمسة وبتقولي نفسنا نعمل مسرحية"، انتقل الحماس ذاته إلى أصحاب "مجراية"، وفي أواخر عام 2015 خرجت أول مسرحية "مِلوانية" أنتجها المشروع.

"وبما إن معندناش مسرح، فكانت مُهمتنا إننا نعمله". بحث زيدان وشريكه عن مكان يصلح للعرض، فاستقروا على دور سينما مُغلقة منذ التسعينات "أجرناها من صاحبها، وبنينا خشبة مسرح وفرشناها كراسي، اتمرمطنا في الأقسام عشان نجيب تصاريح وبعديها طبعنا التذاكر". لكن الحدث كان يستحق التعب من أجله. المشهد بدا مُبهرًا بالنسبة للشاب الثلاثيني، قرابة خمسمائة شخص حضروا العرض "كنت مخضوض وفرحان ومش مصدق في نفس الوقت".

4

احتياجات أهل ملوي كانت الهّم الأكبر لدى أصحاب "مجراية"، في مدينة منغلقة على نفسها دون دور سينما، مسرح، أو فعاليات ثقافية "كنت بشوف أصحابي وهما مضايقين، كل سنة لازم يسافروا القاهرة عشان يروحوا معرض الكتاب ويبقوا راجعين والكتب على قلبهم في الطريق".

كانت الأحلام أكبر من إمكانات زيدان وشريكه مينا يسري، غير أن منحة حصلوا عليها من معهد جوتة الألماني أثلجت صدورهم "دعمتنا ماديًا عشان نعمل معرض كتاب". في نوفمبر 2016 نُظمت أول دورة لمعرض كتاب ملوي "كان تفكيرنا ميكونش مجرد كتب، يبقى احتفالية ثقافية في حفلات وورش وندوات ومسرح، الناس تشوف حاجات جديدة" وقد كان.

5

أجّر زيدان قاعة من مركز شباب بلدته التابع لوزارة الشباب والرياضة وأُقيم المعرض على خمسة أيام متتالية "بعتبره أنجح حاجة عملها مجراية". يذكر الحِراك الثقافي الذي هزّ ملوي لاسيما بالندوات الأدبية، قرابة ألف شخصًا حضروا الحدث، لا ينسى "خضة" شباب ملوي "لما أحمد مراد جالنا، أو عمر طاهر، ومحمد عبدالنبي وحسن الجندي وسامح فايز" أسماء مهمة في عالم الكتب كانت علامة مميزة في أول نسخة من معرض كتاب ملوي.

لكن اللحظة التي اهتّز فيها قلب زيدان حين حضرت والدته معرض الكتاب، ربما لم ترَ الثورة أو شاركت بها، لكن تسلل لها ما تركته بابنها "العيلة بتشتغل في تجارة الخشب فكنت بالنسبة لهم مجنون باللي بعمله"، ضّمت الأم ابنها "وكانت مبسوطة بالمكان، دي اللحظة اللي حسيت فيها إننا نجحنا".

6

لم تفوّت والدة زيدان الفعاليات المهمة، حّلت بها الدهشة بينما ينشد فريق الحَضرة داخل مجراية وهناك أعداد كبيرة حاضرة لا تجد مكانًا للجلوس، أو حين جلست لأول مرة على مقعد وأمامها عرض مسرحي.

ظلت مجراية تركز على فعاليات أساسية، نادي سينما، إنتاج مسرحيات، ومعرض الكتاب، برغم العثرات المادية، في العام الفائت انتهى دعم "جوتة" للمعرض، لكن أصحاب "مجراية" صمموا على إقامته، وبـ40 دار نشر انطلق الحدث في نوفمبر 2018 داخل مقر مجراية نفسها، لتكون دورته الثالثة ناجحة أيضًا وتضم كُتّابًا مخضرمين "منهم محمد شعير، وأصحاب دور نشر، المعرض بقى له اسم والكل بيبقى عاوز يشارك فيه".

7

مع كل عام جديد تحاول مجراية خلق حدث مختلف، مع إتمامها للسنة الثالثة تغيّرت معالم المكان "خدنا شقة فيها 3 قاعات وعملنا الجراچ مسرح". أُنتِج منذ إنشاء المشروع 5 مسرحيات، بات المكان وصلة لباقي فرق المسرح في المنيا والصعيد "في ناس بقت تيجي تعرض عندنا في ملوي"، ثم انقلب الأمر "وفريقنا عرض مرة في القاهرة".

وصلت فعاليات مجراية إلى فئات عدة غير أن زيدان اكتشف أنه لم يطرق عالم الأطفال بعد، أطلع على تجارب في القاهرة وبالخارج للمراكز التأهيلية للطفل قبل التحاقه بالمدرسة، فكانت أكاديمية طفل ملوي "اتواصلت مع مدرسين تربويين وعملنا منهج يعلم الطفل الأنشطة الحياتية، وإزاي يبقى شخص مسئول"، وتعتبر الأكاديمية النشاط الوحيد الربحي بمجراية "كل فعالياتنا الباقية مبناخدش من حد فلوس".

8

داخل الأكاديمية الوليدة 12 طفلًا "كنت متفاجئ إن في أهالي عندهم استعداد يجازفوا"، يعدد الأنشطة التي يتلقونها "ببنحكيلهم حواديت بتحريك العرايس، وبنظّم رحلات لأماكن طبيعية يزرعوا هناك ويتعرفوا على المحاصيل اللي بياكلوها وهي لسة على الشجر"، يقول زيدان بينما يتصفح هاتفه باحثًا عن مراجعة كتبتها إحدى الأمهات على صفحة الأكاديمية، فيشعر بالفخر من كلمات الثناء.

كذلك يمتّن للثورة والفرصة التي جعلته يكتشف ذاته من جديد، ومجراية التي كان لها الأثر نفسه على أهل ملوي. يذكر شريكه الحالي بالمشروع مينا يسري "جالنا في الأول شاب مهتم بالسينما الأمريكية، معانا بدأ يتفرج على أفلام مختلفة وبعدين مسك هو نادي السينما في مجراية وبقى يجيبلنا أفلام من كل حتة".

9

نما شغفه تجاه السينما، علّم نفسه التصوير والمونتاج عبر الإنترنت وبدأ مشروعه الخاص "عمل فيلم وثائقي عن عدم وجود دور سينما في المنيا"، رافق زيدان صديقه في رحلته حتى بات شريكه في مشروع "مجراية". كان الحدث الأكبر حين قُبِل فيلم مينا في مهرجان سينما زاوية للأفلام الوثائقية "لأول مرة فيلم من ملوي يتعرض على سينما بدل البروجكتر، كانت لحظة عظيمة بالنسبة لنا".

الثورة التي أوجدت مجراية بشكل أو آخر، جعلت ناس ملوي ينقبون في ذاتهم عن أحلام منسية، مثل عبدالله جودة، الشاب الذي أراد دومًا التمثيل على المسرح "جالي وقالي ممكن لو سمحت نعمل مسرحية؟ سألته الفريق اللي معاك متدرب؟ قالي لا". كان ذلك في بداية المشروع، صار جودة الآن "فِروِد مجراية، هو اللي مسئول عن المسرح، وبيعمل كل تصممياتنا للصفحة".

10

لم يعد بريق الثورة كما كان قبل ثمان سنوات بالنسبة لزيدان، غير أنه يفتش عنه في شقيقته التي أُسِرت بالمشروع فأصبحت تعمل معه، في نظرات والدته الفخورة له كل يوم، أصدقاؤه الذين شقوا طريقهم، في تجمع ثقافي لم تحظَ به بلدته من قبل أو في معاني لم تكن لتصل قلبه دون الثورة "إننا نبقى مصدقين في نفسنا".

تابع باقي موضوعات الملف:

"الثورة يعني بناء".. كيف طوّر 24 مصريا قرى الفيوم؟

2019_2_11_18_25_42_40

"الثورة صالحتني على البلد".. "مونيكا" تركت إيطاليا للحفاظ على آثار مصر

2019_2_11_13_8_15_623

جنوبية حرة.. "الثورة في دم بنات أسوان"

2019_2_9_19_12_4_196

قصة "السيد" مع الثورة.. درس التاريخ الذي أسقط حسني مبارك

2019_2_11_14_51_11_118

أثر الثورة لا يزول.. رحلة مبادرة "لاستخدام العقل" من القاهرة للمحافظات

2019_2_10_21_47_24_619

فيديو قد يعجبك: