إعلان

"في زيارة الأحباب".. عيد الفطر على أبواب سجن طرة (معايشة)

05:36 م الجمعة 15 يونيو 2018

أهالي المحبوسين

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتبت - مها صلاح الدين:

على رأس طاولة مفترشة بالحقائب، تقف "إسراء" تغلق آنية الأرز الأخيرة بحرص، تضعها في الحقيبة البلاستيكية البيضاء، تتفحص كل شيء، "كل شيء على ما يرام.. ما من شيء ينقص"، تطمئن والدتها التي تجاورها بكلمات مقتضبة، وتبدأ الرحلة الأسبوعية التي اعتادتها العائلة منذ 5 سنوات، من بورسعيد إلى سجن طرة.

"هذه الزيارة استثنائية".. تقول إسراء، أعلنت عنها وزارة الداخلية، منذ أربعة أيام، وافق وزير الداخلية وقتذاك، اللواء مجدي عبد الغفار، على منح جميع نزلاء السجون، زيارة استثنائية، لإتاحة فرصة لهم ولذويهم، للاحتفال معا بعيد الفطر المبارك لعام 1438.

"في البيت أو في السجن.. لا يصبح عيدًا إلا معه"

في الثانية صباحا، تشق عائلة إسراء بأكملها سكون الليل القاتم بخطوات ملهوفة، يحملون حقائب الزيارة، ينطلقون من منزلهم نحو موقف الميكروباص، الذي يبعد مسافة 10 دقائق سيرا على الأقدام، "من القاهرة لبورسعيد حوالي ساعتين ونصف"، تقول إسراء.. لكن توافد الأطفال وكبار السن، يجعل مدة الرحلة أطول، بالإضافة إلى المسافة من موقف القاهرة وحتى طرة البلد، حيث يقبع سجن طرة، مستقر والدهم، لتمتد مدة الرحلة من ساعتين ونصف إلى 4 ساعات وأكثر.

"من أجل لقائه كل شيء يهون"

ما سبق لم يكن سوى الجزء الأسهل من الرحلة، في ممر موازي لكورنيش النيل، ما بين منطقتي المعادي وحلوان، في السادسة صباحًا يبدأ الجزء الأصعب، تلهث الأسرة نحو شباك حجز الزيارات، تفتح أبوابه في السابعة، لكن طابور الزائرين يبدأ في وقت أبكر، تتسابق الجموع لحجز مراكز في المقدمة منه.

وبينما تقف الأسرة في الصف بانتظام، الأم، أكبرهم سنًا في المقدمة، والأخ الصبي يخلف أخوته البنات بعيون ناعسة، يستفيق على صوت "سيد"، شاب ثلاثيني يتشاجر للحصول على مكان في مقدمة الصف، خوفًا من من ألا يكون ضمن الـ 100 شخص، الذين سيسمح لهم بالدخول للزيارة في اليوم. الذين يقيدون في 10 كشوفات.

لا يريد سيد المغادرة، مثل من لا يحالفهم الحظ في إتمام زيارتهم خلال أيام الوقفة، وأول أيام العيد، وأن يضطر للعودة إلى أبواب ليمان طرة مرة أخرى، في المدة التعويضية التي أمهلتها وزارة الداخلية، حتى الخميس 19 يوليو 2018، على ألا تحتسب تلك الزيارة ضمن الزيارات المقررة لنزلاء السجون. يبادر الجميع بتهدئة سيد، خوفًا من أن يستمع رجال السجن، ويلغون الزيارة بأكملها. يقتنع سيد بكلماتهم، ويقف هادئًا على مضض.

"في انتظارك.. لا نَمِل"

أخيرًا، تصل الأسرة إلى مقدمة شباك التذاكر، يسجلون أسماءهم، يطمئن قلبهم، الآن فقط يضمنون اللقاء، يتجاوزون الحاجز الأسمنتي الذي يشطر الممر الضيق إلى قسمين، ويجلسون على المقهى المواجه لبوابة السجن، الآن يستطيعون أن يتناولوا بعض اللقيمات، بعد ليلة كاملة، لم ينزل الطعام إلى جوفهم، يضيعون الوقت باحتساء المشروبات حتى تنتهي إجراءات رجال السجن خلال ساعتين أو أكثر، وفي العاشرة صباحًا، يُفتح باب الزيارات، ويبدأ العساكر في النداء على زيارة، تلو الأخرى.

"الطريق إليك طويل جدًا"

تترك إسراء يد أمها، وتُعلق في ذراعها يد الحاجة زينب لتتكئ عليها، سيدة ستينية جاورتهم في جلستهم على المقهى، لا يعرفونها سوى منذ بضعة ساعات، لكنها كانت كفيلة بأن تحكي إليهم حكاية إبنها الذي يشارك رب أسرتهم محبسه، ويهمون ليتجاوزوا سويًا بوابة السجن.

لا تستطع السيدة المسنة التي تقطن في حي بولاق الشعبي، التردد على سجن طرة كل أسبوع لرؤية فلذة الكبد مثل أغلب الجموع، لذا كان عليها أن تتحمل معهم كل ما هو آت، تحمل بقية أفراد الأسرة الحقائب، تتدكس الجموع داخل غرفة صغيرة، من يستمع إلى اسمه، يذهب إلى التفتيش، تبادر النساء بخلع الأحذية، وترك الحقائب على السير الإلكتروني، ويبادر الرجال بخلع الأحزمة وكل ما هو معدني.

بعد تجاوز السير الكهربائي ، تبدأ عملية تفتيش الحقائب والطعام يدويًا، يحملون الحقائب الممتلئة بالفاكهة والطعام والملابس وكحك العيد من جديد، يخترقون ممر ضيق محاط بالأسلاك، في صفوف تتقدم 5 سنتيمترات في كل 10 دقائق، وفي نهاية الممر، يبدأ التفتيش الثاني، وهنا يترك الزائرون الحقائب، على أمل أن تصل إلى صاحبها بعد الزيارة.

"لم يهل العيد بعد"

في صالة الوصول، كما تطلق عليها إسراء، تبدأ الأسرة ومرافقيها في اختيار المكان الأمثل، والانتظار من جديد، تتعلق أنظارهم نحو باب النزلاء، الذي لا يُفتح إلا بعد أن يدخل جميع الزوار. ساعتان ولم ينفتح باب اللقاء بعد، رغمًا عنهم، يشعرون بالملل، لكن لقاء العيد يستحق بالتأكيد، هكذا تهون إسراء - الأكثر ثباتًا - على أسرتها الوقت، وتحفزهم لتحمل عناء الانتظار. تُصبّر الحاجة زينب التي بدأت دموعها في الانهمار، وتهدئ من تململ شقيقها الأصغر حتى لا ينفعل، تحملق في وجه الأم الصامت دائمًا، وتنقل نظرها نحو باب الأمل من جديد، وتدعو في سرها أن يعجل الله باللقاء.

"الآن فقط.. يبدأ العيد"

بعد ساعتين أو أكثر، أُغلقت أخيرًا بوابة الزائرين، وفُتح الباب الذي كاد أن يُثقب من تعامد الأنظار عليه، هم الجميع بالوقوف في ترقب، انقلبت نظرات العيون من العطش، إلى الارتواء برؤية الأحباب، انفصلت الحاجة زينب عن الأسرة أخيرا، أعاد النظر إلى ولدها شبابها من جديد، استقام عودها المحني، وهرولت إليه بخطوات مسرعة لتضمه إلى حضنها، وتبكي.

تأخر ظهور الأب خلع قلوب أسرة إسراء للحظة، لكن سرعان ما هل عليهم من بعيد، فهرولوا إليه بنفس اللهفة. في هذه اللحظة فقط أطلقت إسراء العنان لدموعها بين ذراعي والدها، الذي تغير كثيرًا، الرجل الخمسيني الذي كان لا يدخل إلى بيته سوى لتناول وجبة العشاء والنوم، أصبح أكثر هدوء ورصانة، بعد أن حُرم من رؤية الشوارع، أصبح أكثر ثقافة، ورشاقة، منحته ساعة التريض اليومية جسما مشدودا، وسلبت منه بدانته السابقة، بحسب قول الإبنة.

لم تتسع مدة الزيارة الاستثنائية التي تراوحت مدتها بين العشر دقائق، والثلث ساعة، إلى جميع خيوط الحديث التي أرادت الأسرة أن تغزلها مع الأب الغائب، استرقوا 10 دقائق إضافية، يسيرون فيها بخطوات متباطئة نحو باب مغادرة النزيل، يعقبهم العسكري بقوله الزيارة انتهت، يهزون رأسهم استجابة له، لكنهم لا يخرجون.

"فرجه قريب"

منذ 5 سنوات وحتى الآن، لا يخرج الأب من ساحة الزيارة نحو محبسه من جديد، إلا وهو يقول لهم "هتفرج إن شاء الله"، وكأنه يريد أن يعيد وصل خيوط الأمل لديهم، لا يقبل أن يعود إلى الزنزانة إلا بعد أن يرى الابتسامة على وجوه الجميع، وأن يحرك لسان زوجته الصامت منذ أن غادر المنزل، بكلمات مقتضبة، وتتعلق أنظارهم به حتى يختفي.

لم تغادر الأسرة ساحة الزيارة، إلا بعد غلق باب النزلاء، وفتح باب الزائرين مرة أخرى، تعود الحاجة زينب إلي رفقة الأسرة، تعود إليها علامات الشيب من جديد، تتقدم النساء الثلاثة الشقيق الأصغر في الخروج، تلك هي القوانين، في البداية تخرج النساء، ثم المنتقبات، ثم الرجال، ويعود كل منهم إلى حيث جاء.

فيديو قد يعجبك: