بـ6 شخصيات.. محمود عوض يستعين بالأطفال للتمرد على الأدب
كتبت- يسرا سلامة شروق غنيم:
في عام 1977، قرر الكاتب محمود عوض أن يتمرد على صنوف الكتابة، بعد كتابته في عالم السياسة، وقليل من عالم الأدب، نبض قلمه للصغار بمجموعة قصصية صغيرة، في هذا التوقيت عزف كبار الكتاب عن ذلك، "بسبب خجلهم في الكتابة للأطفال"، لكن "عوض" لم يكتفِ بخوض التجربة فقط، بل قدّم نمطًا مختلفًا للأطفال، ومن خلال ست شخصيات، جمعهم خط واحد "التمرد"، على اختلاف أزمانهم، خرجت سلسلة "نوابع العرب"، عن دار المعارف، ضمت "طه حسين، أحمد شوقي، سيد درويش، سعد زغلول، مصطفى كامل، جمال الدين الأفغاني".
في نفس العام الذي حصل فيه "عوض" على جائزة الدولة الاستثنائية في أدب الطفل، كان له حوار بتاريخ الخامس من أغسطس، والذي يحكي خلاله قصته مع كتابة سلسلة للأطفال، يذكر فيه:
"لم أكن أتخيل مدى صعوبة الكتابة للأطفال، لأن الطفل كائن بشري يحتاج أن نقدم له في هذه السن المبكرة صورًا موحية عن الدنيا التي سوف يعيش فيها بعد ذلك، هذه الصور هي التي تساعده على تكوين قيمته وتمهده للاختيار بين فروع الحياة فيما بعد".
طه حسين.. عميد الأدب العربي
يتشابك محمود عوض مع طه حسين في التمرد على أوضاع المجتمع، ليكون عميد الأدب العربي أول شخصية في سلسلة الأطفال، ويكتب عن طه حسين ما بدا تمردا مبكرا على الحياة الأزهرية، حين قال نقل عن الأديب قوله "كان لا يعيش إلا على خبز الأزهر وويل للأزهريين من خبز الأزهر، إن كانوا ليجدون فيه ضروبا من القش وألوانا من الحصى وفنونا من الحشرات"، وناقلا لمعركته الفكرية وقت توليه عدد من الوزارات منها وزارة المعارف، بعد أن رفض منح الدكتوراه الفخرية لعدد من الأعيان قائلا "عميد كلية الآداب ليس عمدة، تصدر له الأوامر".
بتلك القصة غاص "عوض" في حياة طه حسين، مارًا بتجربة الجهل التي تسببت في فقدانه للبصر، وآخذا من أقاويل طه نفسه في سيرته الذاتية "الأيام" بعض المقتطفات، فكما رفض "عوض" أن ينحاز للسلطة إبان حكم السادات بعد معاهدة السلام، نقل تمرد طه حسين وقت الملك فؤاد، ساردًا سخريته للخطبة التي سٌميت بـ"خطاب العرش"، فكتب طه: "كانت رائعة بارعة خطبة العرش التي ألقاها رئيس الوزراء، صورت لنا الحياة المصرية كأحسن ما تكون الأمم، حكومة جادة لا تنام، وشعب عامل لا يريح ولا يستريح، وقد رضيت الحكومة عن نفسها وأثنت على نفسها، وفي أثناء هذا كله كان المواطنون يموتون مئات، ويمرضون مئات، وكانت ملايين من المواطنين تنعم بالجهل الذي يحجب عنها حقائق الحياة".
أموال السلسة في "قعدة" عربي
في جلسة بين الأصدقاء، كان "عوض" يفتح باب منزله لمحبيه من دوائر الفن والسياسة، كان وقتها صديقه حسين العقاد وغيره يتناقشون في أحوال البلاد، بينما يرن هاتف منزل الكاتب، اتصال من الكاتب أحمد كمال أبو المجد، يطلب من "عوض" أن يفكر في الكتابة للأطفال، فطفقت في ذهنه سلسة نوابغ العرب، فيما رأى أصدقائه المقربون أن منزل "عوض" بحاجة لتجديد الأثاث "عايزين قعدة حلوة كدة تستقبل فيها الفنانين وضيوفك يا عوض"، لم يوقف النصيحة إلا أموالها، وبتوفر أموال من سلسلة الأطفال، ذهب "عوض" والأصدقاء لشراء "قعدة عربي" تستقبل ضيوفه.
ولم يتعامل "عوض" باستسهال في كتابته للطفل، يقول في أحد حواراته: "أول شرط للكتابة للأطفال هو البساطة الشديدة، والكتابة للأطفال هي اختبار لقدرات الكاتب؛ لأن البساطة شئ صعب، ولأن الطفل محتاج إلى تغذية صوره العقلية وإلى تنمية الخيال، فلابد من وجود صورًا توضح ذلك".
أحمد شوقي.. أمير الشعراء
اقترب أحمد شوقي من السلطة، كان من الأصل واحدا من مواليد المقربين من القصر، لكنه حين وقع الظلم على عامة الشعب، انصاع للفقراء، كتب في الشعر عن حادث دنشواي "يا دنشواي على رباك السلام.. ذهبت بأنس ربوعك الأيام"، شاهد فيه "عوض" نفسه حين كان يطوف بالمنزل حتى يكتمل البيت الشعري في ذهنه، تماما مثل "عوض" الذي يظل يدور بمنزله حتى تعتمر فكرة المقال برأسه.
وكما قال "عوض" عن نفسه إنه تم استبعاده بشكل تعسفي عن أخبار اليوم، كان ذلك موضع لاهتمام كاتبنا لدى الشاعر أحمد شوقي في كتابه بسلسلة الأطفال، لينقل "عوض" معاناة الشاعر المصري حين تم نفيه حين احتل الإنجليز مصر، خوفا من تأثيره، وكتب شوقي من الغربة "وطني لو شغلت بالخلد عنه.. نازعتني إليه في الخلد نفسي"، كان شوقي مرهف الحس، يحفظ الشعر لدرجة أن معلمه يعود إليه في القصائد التي ينظمها، يبحث "عوض" عن قصص تقرأها لأول مرة عن الشاعر وعلاقته بأصدقائه.
"عوض" تعلم من الطفل قبل أن يعلمه
خوض تجربة جديدة كالكتابة للطفل كان لها تأثيرها على "عوض": "عرفت لماذا تقدم دور النشر الأجنبية كل هذه الإغراءات للكتاب من أجل الكتابة للطفل، وعرفت لماذا تحولت القراءة إلى عادة قومية، من هذه التجربة تعلمت من الطفل قبل أن أعلمه، وكسبت معرفة قبل أن أعطي معرفة، وتمنيت أن أكون طفلًا لكي أوجه سخطي إلى كبار الكتاب في العالم العربي بسبب خجلهم في الكتابة للأطفال".
سيد درويش.. فنان الشعب
رغم سنه الصغير، إلا أن الشاب اليافع سيد درويش كان على المحك، بين موهبته وبين ما يمليه عليه مجتمعه، تماما كما كان كاتبنا قبل أن يكتب عن درويش، رغم ملكة الكتابة كان "عوض" تحت ضغط أهله أن يتم الدخول إلى كلية الحقوق، لكنه -رغم دراستها- لم يندرج إلى طريق النيابة أو المحاماة، واختار أن يسلك طريق الكتابة، كما فعل الملحن سيد درويش ورفض أن يكون شيخا معمما كما أراد أهله، وانصاع لموهبة التلحين والغناء، وحاول فيها حتى بعد فشل البدايات، كما يروي "عوض" في سلسلة الطفل.
في الشوارع والأزقة، كان سيد درويش -بعيون عوض- متجولا، يبحث عن الباعة الجائلين، يشنف أذنه ما يرددونه من كلمات تجذب الناس إليهم، من مناداتهم يلتقط الثقافة الدائرة في الشوارع، ويتخذ منها طريقة للحن مثل "مليحة جوي القلل الجناوي"، اشترك مع "عوض" في الزهد، إذ توفى درويش في عمر الحادية والثلاثين ولم يترك مليما واحدا، ولكنه ترك ألحانا يرددها الشعب من بعده مثل مؤلفات كاتبنا، وأبرز تلك الألحان نشيد النشيد القومي "بلادي بلادي لك حبي وفؤادي" الذي خرج الشعب يرددها في ثورة 1919.
الكتابة للأطفال بروح الهاوي
كانت تلك السلسلة وحدها ما كتب "عوض" للأطفال، رافضا أن يكرر التجربة بقلم المحترف للطفل، قائلا: "أرفض فكرة أن يوجد كاتب يحترف الكتابة للأطفال، لأن الاحتراف يتحول بعد فترة إلى وظيفة تمنعك من الخلق، فأحسن كاتب يصف مدينة هو الذي يراها لأول مرة، وليس الذي يعيش فيها، وأحسن كاتب يكتب للأطفال هو الذي يكتب من باب الهواية وليس من باب الاحتراف، الكتابة للطفل كدور كاسحة الألغام، فهي التي تمهد الطريق لوجود القارئ الأنضج المحب للقراءة في حد ذاته هو البذرة الضرورية لولادة أي نهضة ثقافية، ولذلك فإذا أردنا أن نبني مجتمعا ديمقراطيًا يجب أن نبدأ بزراعة الحرية لدى الطفل، وهذا يبين الدور الخطير لأدب الطفل".
سعد زغلول.. زعيم الأمة
بدأ "عوض" قصته عن سعد زغلول من خلال "الفقد"، حيث توفي والده وهو لا يزال ابن الخمس سنوات، وتولت والدته مهمة التربية "أمي هي التي جعلتني أؤمن بتحرير المرأة"، ومثلما كان صغيرًا زغلول حين فقد والده، تلقى "عوض" صدمة وفاة والده وهو في الصف الأول الثانوي، يمر "عوض" بحياة سعد، وكيف علّقت أسرته أمالها عليه، "القدر قد قدَّر أن يجعل سعد بشيرًا بالثورة في أمته كلها".
شاهد "عوض" حياة سعد زغلول بعيون مختلفة، الحكايات تتقاطع مع ما مر به كاتبنا أيضًا في حياته، وكيف كان "مُتمردًا"، مثل زغلول، والشخصيات التي تحدث عنها، لم يكن "عوض" مهتمًا بالمناصب، ولم يسعَ لها، أحب فقط ما يُقدّمه، وظل مؤمنًا بأفكاره عن الحرية، كارهًا للظلم، وهو ما انعكس على التفاصيل التي لم يغفل عنها في حياة زغلول، الذي ثار على الطغيان، وحينما لم يُنفَّذ قرارًا في حق شخص بسبب قربه من الخديوي حينها، لم يتردد في تقديم استقالته من وزارة الحقانية-العدل، يقول "عوض": "خسر كرسي الوزارة، ولكنه كسب راحة الضمير".
"طبخة" أدب الأطفال
وعن التجربة نفسها، يقول "عوض": "ليس هناك كتابة صعبة أو كتابة سهلة، وإنما هناك كاتب قادر وكاتب عاجز، الكتابة كبناء عمارة فكما أن العمارة محتاجة إلى حديد وأسمنت وخشب وزخرفة.. كذلك الكتابة للطفل تحتاج الحقيقة والخيال والمغامرة والتسلية، كل هذه مكونات "الطبخة"، ولكن بشرط استخدام كل شئ في مكانه الصحيح".
يستكمل "عوض" في حواره "هدف أدب الطفل ليس تعليم الطفل وإنما إعطاؤه المفاتيح التي يستطيع بها تعليم نفسه، لأنك لو أعطيته محاضرة في الكتاب لهرب منك. الكتابة ليست كالكيمياء، ففي الكيمياء تستطيع أن تصل إلى صيغ علمية ثابتة، لكن الكتابة لابد أن تكون فيها روح العصر، لو حدث أن كل كاتب كبير حاول أن يكتب مرة واحدة للطفل لكان هذا أكبر خدمة للحركة الثقافية في العالم العربي".
مصطفى كامل.. مؤسس الحركة الوطنية
كان محمود عوض مهمومًا بقضايا الوطن، معارضًا لكل أشكال الديكتاتورية، أو التحالف مع العدو، من خلال مقالاته، ومن هذه الزاوية كان يتناول قصة مصطفى كامل، الذي رفض الاحتلال الإنجليزي، ساردًا كيف كرَّس حياته وقلمه لمجابهته، وفضح جرائمه، مثل حادثة دنشواي، التي كتب "كامل" عنها حينها مقالًا في "ليفجارو" الفرنسية، باسم "إلى الأمة الإنجليزية والعالم المتمدن"، شخصية الصحفي تطغى على "عوض" في سرده، فلا يهمل ذكر المجلات والصحف التي أطلقها مصطفى كامل، وأهمية الكتابة بالنسبة للقضية الوطنية برمتها.
شقة "عوض" كانت مُكدَّسة بالجرائد القديمة، والكتب، وكان عاشقا للقراءة عشقا جمًّا، لذا لا يغيب عنه حينما قرر تقديم مصطفى كامل للأطفال، أن يذكر كيف كان يقضي يومه، وكيف خصص ثمانِ ساعات من يومه للقراءة، ولا يغمض جفنه إلا بعد قراءة لمدة ساعتين، يتنقل "عوض" في حياة كامل، ويحكي عن سفره من أجل القضية، والدفاع عن وطنه في قلب عاصمة الاحتلال حينها لندن، ومثلما لم يلحق عوض ثورة 25 يناير، وتوفى قبلها بسنوات، كان مصير مصطفى كامل، أن يغيب عن الحياة قبل أن ينجلي الاحتلال، وعن جنازته يُنهي الحكاية "عوض": "لم تكن جنازة.. بقدر ما كان موكبًا وطنيًا".
ريشة "حسين" مُقابل قلم "عوض"
على يمين كل صفحة من الكتاب، يسطر "عوض" قصة بطل السلسلة، بينما الصفحة المُقابلة تحمل رسومات توضيحية للرسام مصطفى حسين، "كنا نتبادل الرسم معًا، ولم يكن من الممكن أن تنجح هذه السلسلة إلا لأننا فكرنا فيها معًا وعشناها معًا، وهذا عكس ما يحدث أن يكتب الكاتب ويقوم الرسام بعدها بالرسم، بل كنت اكتب وأرسم أحيانًا، وإذا لم تساعد الكتابة على الرسم كنت أقوم بتعديلها".
جمال الدين الأفغاني.. مُصلح الشرق
يتلقّف "عوض" "التمرد" الذي تحلّى به الأفغاني، ويسرد من خلاله مواقف مّر بها، وكيف اصطدم بأكثر من حاكم، وكيف طاف أكثر من دولة، ودعاهم جميعًا إلى الحرية ومحاربة الديكتاتورية، "في كل مكان يهبط فيه كان يزرع بذور التمرد والثورة والحرية بين الناس، وهذا ما فعله حينما أتى إلها مصر في شهر مارس 1871"، ويضع الضوء على الأوضاع التي آلت إليها مصر خلال تلك الفترة.
ويتقاطع "عوض" مع الأفغاني في الظلم بسبب كلماته ومواقفه، وكيف ظل ثابتًا لم يتردد لحظة عن قول الحق، والوقوف في وجه الطغيان، حتى مع صديق الأفغاني القديم قبل أن يصل إلى الحكم الخديوي توفيق، وكما نُفي "عوض" داخل بلده، بمنعه من الكتابة تعسفيًا ووقف برنامجه الإذاعي داخل مصر، نُفي الأفغاني خارج مصر إلى الهند مرة، والموصل مرة أخرى، اصطدم مع شاه إيران، حتى ألقى القبض عليه، وحينما استقر بالأستانة، قرر السلطان العثماني إنهاء حياته من خلال مكيدة أصابته بالسرطان، وهنا يقول "عوض": "نعم لقد مات المصلح العظيم جمال الدين الأفغاني.. لكن الأفكار لم تمت، ولن تموت".
تابع باقي موضوعات الملف:
محمود عوض.. المُتمرد لوجه الله (ملف خاص)
1- مشاهد من مسيرة ''محمود عوض'' في ليالي القاهرة
2- محمود عوض.. الموت في منتصف الجملة الصحفية
3- من أم كلثوم لـ''عدوية''.. محمود عوض يكتب لمن يهواه القلب
5- على الدَرب.. يسري فودة يروي ذكرياته مع ''الأستاذ'' محمود عوض (حوار)
6- كيف تصنع صحيفة جماهيرية في 3 شهور؟.. الإجابة: محمود عوض
7- ''وعليكم السلام''.. كيف واجه محمود عوض بارود الصهاينة بالقلم
8- كواليس أول تكريم للصحفيين على يد محمود عوض
9- أعمال محمود عوض.. أوراق ضد النسيان (إنفو جراف)
فيديو قد يعجبك: