إعلان

فيروس كورونا: كيف أثر تفشي الوباء على النقابات العمالية؟

12:09 م السبت 26 ديسمبر 2020

الشاب جاك رودس بيرنايز

لندن- (بي بي سي):

يعتقد الشاب جاك رودس بيرنايز، الذي يعمل في خدمة توصيل الأطعمة في بريطانيا، أن لدى الكثير من زبائنه تصورا خاطئا مفاده أنه وأقرانه من العاملين في هذا المجال، يجنون مكاسب أكبر في غمار تفشي وباء كورونا.

فأحيانا ما يسمع رودس بيرنايز، الذي يعمل لحساب شركة "ديلفرو" منذ عامين، من يقول له: "أراهن أنك مشغول الآن بالعمل، أكثر من أي وقت مضى".

المفارقة أن العاملين في مجال توصيل البضائع في شتى أنحاء المملكة المتحدة، يقولون في الوقت نفسه إنهم يمرون بفترة عصيبة، فقد باتوا يعانون الأمريْن لكسب قوت يومهم، في ظل تزايد عدد من يرغبون في العمل في مجالهم من جهة، وتراجع أعداد الشركات والمؤسسات العاملة في البلاد من جهة أخرى.

ففي الفترة السابقة لتفشي الوباء، كان من النادر أن يقل دخل رودس بيرنايز (26 عاما)، الذي يجوب مقاطعة يورك الإنجليزية على دراجته لتوصيل الأطعمة، عن الحد الأدنى للراتب المحدد قانونا في البلاد. أما الآن، فيقول إن مكسبه قد لا يزيد في بعض الأيام، عن أربعة جنيهات إسترلينية ( حوالي 5.23 من الدولارات الأمريكية) في الساعة، وهو أقل من نصف الحد الأدنى المنصوص عليه في القانون، للراتب الذي يتقاضاه من يماثلون هذا الشاب في العمر، ويعملون بعقود، لا بشكل مستقل وحر مثله.

لكن شركة "ديلفرو" تقول إن عمال التوصيل لديها، ممن يستخدمون دراجاتهم في هذا الغرض، يكسبون في المتوسط، ما يفوق الحد الأدنى من الأجور. كما أشارت في الماضي، إلى أنه لا يتم توظيف العمال الجدد، سوى في المناطق التي تشهد تزايدا في حجم الطلب، وهو ما يعني أن مكاسبهم مضمونة.

ولا يتمتع عمال توصيل البضائع على متن الدراجات من أمثال هذا الشاب، بالكثير من الحقوق خلال عملهم، نظرا لأنهم يعملون بشكل حر ومستقل، وهو ما يحدو برودس بيرنايز، للقول إنه يضطر دائما للسحب على المكشوف من حسابه المصرفي، ما يجعله يتابع باستمرار الإشعارات التي تصل إليه على هاتفه، كي لا يفوت فرصة الموافقة على القيام بأي توصيلة.

ويشير بيرنايز إلى أن نظام الإغلاق العام الذي طُبِقَ للحد من تفشي كورونا، كشف النقاب عن نقاط الضعف في مجال عمله، والتي تتمثل بشكل أساسي في "أنك لا تحظى بالحقوق التي يتمتع بها العمال" في المعتاد.

لذا، قرر قبل نحو أربعة أشهر الانضمام إلى فرع يورك من نقابة "العمال المستقلين في بريطانيا"، التي تمثل من يعملون في مجالات لا تشهد أنشطة نقابية في المعتاد، كعمال النظافة وموظفي الاستقبال ومن ينخرطون في أعمال خيرية، ومطوري الألعاب.

وجاء اتخاذ بيرنايز قرار الانضمام إلى هذه النقابة، أملا في أن يسهم من خلال موقعه داخلها، في لفت الانتباه إلى معاناته وأقرانه من الافتقار للكثير من الحقوق، وتكوين تجمع من العمال المعزولين عادة بشكل ما، عن الأنشطة النقابية.

ورغم أن وقائع التاريخ تشير إلى أن العمال الشباب ونظراءهم ممن يعملون بصورة مستقلة، يرون النقابات العمالية أقل جاذبية، فإن عمالا مثل بيرنايز، بدأوا الآن في إعادة اكتشاف فوائد العمل النقابي، بعدما أصبح الغموض يكتنف المستقبل المهني للكثيرين منهم، وباتت وظائفهم أقل استقرارا. ومن هذا المنطلق، يقول بعض الخبراء إنه قد يكون من شأن الوباء وتبعاته، فتح الباب أمام إقبال مزيد من العمال الشباب، على الانضمام للنقابات.

وسيشكل ذلك على الأرجح تطورا إيجابيا بالنسبة للنقابات العمالية في الدول الصناعية، التي تكافح منذ أن بلغت ذروة ازدهارها في سبعينيات القرن الماضي، للإبقاء على أعضائها الأكبر سنا، ولاجتذاب أعضاء آخرين أكثر شبابا.

ففي المملكة المتحدة وفرنسا، يبلغ حجم العضوية في النقابات الآن، نصف ما كان عليه في العصر الذهبي للعمل النقابي في البلدين (رغم أنه حتى في ذلك الوقت، كان أعضاء النقابات يمثلون أقلية كذلك في أوساط العمال).

وتبدو الصورة أكثر قتامة في الولايات المتحدة، حيث أصبحت نسبة العمال النقابيين من إجمالي القوى العاملة، لا تتجاوز 10 في المئة، مقارنة بـ25 في المئة في عام 1970.

فالاتجاه العام السائد يتمثل في أن النقابات تجتذب العمال من كبار السن وممن هم في منتصف العمر. وعادة ما يكون هؤلاء من بين العاملين بدوام كامل وفي وظائف ثابتة في القطاع العام، أو في القطاعات الصناعية التي يتسم فيها العمل النقابي بأهمية كبيرة على مر التاريخ.

لكن وتيرة الانضمام إلى النقابات القائمة في هذه القطاعات، تشهد تراجعا مطردا، وذلك بالتزامن مع التأثير المحدود لهذه الكيانات النقابية، في قطاعات مثل الضيافة والبيع بالتجزئة. وتشكل هذه المجالات تحديدا، المكان الذي يبدأ منه الكثير من الشبان مسيرتهم المهنية في بعض الدول، من خلال شغل وظائف غالبا ما تكون غير مجزية، سواء كانت بعقود أم لا.

المشكلة هنا أن العمال الشباب يتحملون الجانب الأكبر من العبء الناجم عن تفاقم الاضطرابات في سوق العمل، وتزايد سطوة النظام الاقتصادي الذي يعتمد على توظيف العمالة بشكل مؤقت. فالعقود في الوقت الحاضر أصبحت أقصر أمدا. ومع أن من يعملون بشكل مؤقت، قد يجنون أرباحا لا بأس بها، دون التقيد بعقود مع مؤسسات بعينها، فإنهم لا يتمتعون في الوقت نفسه، سوى بقدر أقل من الحماية.

وبينما ترفض الشركات الضغوط الرامية لدفعها، للتعامل مع عمال مثل هؤلاء على أنهم موظفون لديها، توجد صناعات وقطاعات اقتصادية تتعمد - كما تقول ميلاني سيمز الأستاذة المتخصصة في شؤون العمل والتوظيف في جامعة غلاسكو الأسكتلندية - أن تختبر "الحدود القصوى للقواعد التي تحكم سوق العمل في المملكة المتحدة، والعالم بأسره كذلك".

من جهة أخرى، فرغم أن العمال الشباب ربما لا يقبلون على الانضمام للنقابات العمالية بشكلها التقليدي، فإن ذلك لا يعني نبذهم لفكرة التحرك الجماعي المُنسق في مجال العمل، إذ يفعل بعض منهم ذلك على طريقتهم الخاصة، وذلك عبر نهج بدأ قبل فترة الوباء الحالي، لكن ظروف (كوفيد - 19) أكسبته طابعا جديدا.

ومن بين أشكال التجمعات العمالية الجديدة هذه، نقابة باسم "العمال المستقلين" شُكِلَّت في الولايات المتحدة للدفاع عن حقوق من يعملون بشكل حر أو مستقل. وتشكل هذه النقابة كيانا غير هادف للربح يسعى لتمثيل هذه الفئة من العمال، ممن لم تنطبق عليهم في السابق القواعد الخاصة بطبيعة العمالة التي تمثلها النقابات التقليدية.

ولا تشكل هذه المؤسسة نقابة بالمعنى التقليدي المفهوم، فهي لا تحصل على اشتراكات من جانب أعضائها (رغم أنها تتلقى عائدات من وراء تسجيل هؤلاء الأعضاء أسماءهم في خدمة التأمين الصحي). كما أنها لا تتفاوض بشأن العقود التي تربط بين الأعضاء وأماكن عملهم.

ومع أن هذه الأشكال النقابية التي تمثل العمال المستقلين، نشأت على نحو أو آخر في الولايات المتحدة منذ عام 1995، فإن نجاحها الأبرز تحقق في عام 2017، مع إقرار قانون في مدينة نيويورك، تحت شعار "توظيف عمالة مستقلة أو حرة لا يحرر رب العمل من القيود الملزمة له حيالها".

وعزز هذا القانون الضمانات الممنوحة للعمالة الحرة أو المستقلة، بما في ذلك منحها الحق في إبرام تعاقدات مع أرباب العمل، والحصول على المستحقات في مواعيدها، وهو ما جعل نقابة "العمال المستقلين" تحقق الأهداف، التي تتوخاها نظيراتها من النقابات التقليدية، على صعيد توفير ظروف عمل أفضل لأعضائها. لكن هذا النجاح لم يحدث عبر الطريقة التقليدية، المتمثلة في التفاوض المباشر مع أرباب العمل.

وثمة حالات أخرى لعمال شباب شقوا طريقهم على درب العمل الجماعي المنسق في مجال العمل، تفاعلا منهم مع بعض القضايا، التي تفرض نفسها على العالم في الفترة الحالية.

فعلى سبيل المثال، ظهر في ولاية فيلادلفيا الأمريكية على مدار السنوات القليلة الماضية، جيل جديد من النقابات، يقودها أشخاص ذوو توجهات يسارية في العشرينيات والثلاثينيات من عمرهم، ويعملون في الغالب في قطاع الخدمات. وفي الوقت الذي يمارس فيه هؤلاء ضغوطا تستهدف ضمان حقوق عمل أفضل لأنفسهم، فإنهم يربطون تلك الحقوق بحركات اجتماعية أوسع نطاقا، كتلك الحركات المناوئة للعنصرية، أو المُطالِبة بإجراء إصلاحات في سلك الشرطة.

ويتوافر هذا النمط من التجمعات والمنصات متعددة الأهداف، في جماعات ضغط يُشكلِّها بعض العمال، وظهرت بشكل مفاجئ ومتسارع في قطاعات لا تعمل فيها النقابات التقليدية في أغلب الأحوال. ومن بين الأمثلة على ذلك، ما حدث في شركة "أمازون" التي منعت موظفيها في الولايات المتحدة من إنشاء نقابة. لكن ذلك لم يحل دون أن تتشكل في العام الماضي، حركة بين العاملين فيها للمطالبة بأن تتخذ الإدارة تحركات أقوى حيال المسائل المتعلقة بالمناخ. لكن نطاق المطالب اتسع بعد ذلك، ليتضمن أمورا مثل توفير حماية أكبر لموظفي "أمازون" من خطر الإصابة بـ (كوفيد - 19).

وعندما اجتاح الوباء العالم، كانت فئات العمال التي تحاول تلك الحركات العمالية الجديدة اجتذابها، من بين المجموعات الأكثر تضررا بتبعاته.

ففي الولايات المتحدة، فقد العمال الذين تتراوح أعمارهم بين 20 و24 سنة، وظائفهم في الفترة ما بين مارس ويونيو 2020، بوتيرة أسرع من أي شريحة عمرية أخرى.

أما في بريطانيا، فيشير "المؤتمر العام لنقابات العمال"، الذي يضم النقابات العمالية المختلفة في البلاد، إلى أن أكثر قطاعيْن صناعييْن تضررا من الآثار السلبية لكورونا، وهما "الغذاء وتوفير أماكن الإقامة" و"الفنون والترفيه والاستجمام"، وهما يشكلان في الوقت نفسه، القطاعيْن اللذين يضمان النسبة الأكبر من العمال الشباب، مقارنة بالقطاعات الأخرى.

وترى آنا ستانسبري، التي تجري دراسات بشأن السياسات الاجتماعية وعدم المساواة في جامعة هارفارد، أن "أحد الآثار طويلة الأمد للوباء، ستتمثل في إقناع قطاع أوسع من الناس، بأن الانضمام إلى نقابة ما، قد يعود بالفائدة عليهم".

وتعتبر أن ضمان سلامة العمال في مكان العمل، في ضوء الوضع الناجم عن تفشي وباء كورونا، سيكون عاملا رئيسيا في هذا الصدد.

وتلفت ستانسبري الانتباه إلى أن الجامعات الأمريكية مثلا، باتت تشهد تأسيس نقابات للمرة الأولى على الإطلاق، وذلك بسبب المخاوف الناجمة عن الوباء، والمرتبطة بشواغل صحية ومالية.

وتقول: "كان الكثيرون يتشككون في أي تحرك يستهدف إقامة نقابة في الجامعات الأمريكية لأعضاء هيئة التدريس وللعاملين فيها من طلاب الدراسات العليا. لكن هذه النقابات اضطلعت بدور كبير في ضمان أن تكون أماكن العمل بالجامعات آمنة، بقدر يسمح للمعلمين والطلاب بالعودة إليها".

وتتفق الباحثة سيمز مع هذا الرأي، قائلة إنه كان يُنظر أحيانا في السابق إلى مسائل مثل الصحة والسلامة، على أنها "الموضوع الأكثر إثارة للضجر فيما يتعلق بقضايا العمل والعمال. لكن هذه النقطة تحديدا، تُظهر الآن بوضوح أكثر من أي شيء آخر، مدى تعارض مصالحك كعامل مع مصالح رب عملك، إذا طلب منك مثلا أداء مهمة ما، قد تصيبك بمرض شديد".

وعلى أي حال، من المؤكد أن هناك مؤشرات تفيد بأن تفشي كورونا، يولِّدُ اهتماما متجددا بالنقابات العمالية.

ويقول رفاييل أسبينال المدير التنفيذي لنقابة "العمال المستقلين" في الولايات المتحدة إن النقابة "شهدت خلال ذروة تفشي الوباء، زيادة في معدل الانضمام الأسبوعي لها، بنسبة تتراوح ما بين 300 في المئة و500 في المئة. وأعمار غالبية المنضمين الجدد تقل عن 35 عاما".

ويرى أسبينال، البالغ من العمر 36 عاما، أن "هذه الزيادة الدراماتيكية، قد تعود إلى سعي العمال المستقلين، لأن ينعموا بمنظومة دعم، وجهة يحصلون منها على المعلومات، خلال فترة مفعمة بالشكوك وعدم اليقين".

وفي مارس الماضي، شهدت نقابة "العمال المستقلين في بريطانيا" زيادة بدورها في عدد المنضمين إليها ممن تقل أعمارهم عن 35 عاما. ورغم أن حجم هذه الزيادة متواضع بوجه عام، فإنها ذات مغزى ما، ومستمرة أيضا. فقد انضم 146 من العمال الشباب إلى هذه النقابة في مارس، مقارنة بما بلغ متوسطه 78 عاملا انضموا لها شهريا، خلال الشهور الأربعة السابقة لذلك، و93 عضوا جديدا سجلوا أسماءهم فيها في الأشهر الأربعة اللاحقة.

ويقول هنرى تشانغو لوبيز، رئيس هذه النقابة، إن العمال الشباب ينضمون إليها "لأن كوفيد - 19 أوضح على نحو مخيف، أنه لا يمكن اعتبار أن غالبية حقوقنا الأساسية أو مسألة الحفاظ على صحتنا وسلامتنا، أمر مضمون ومفروغ منه، في غمار هذه الأزمة".

هذا المحتوى من

فيديو قد يعجبك: