إعلان

الحياة العاطفية للشعبوية

د. ياسر ثابت

الحياة العاطفية للشعبوية

د. ياسر ثابت
08:02 م السبت 06 سبتمبر 2025

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تابعنا على

تورطتْ إسرائيل في تاريخها القصير، الذي يقارب متوسط عمر الكائن البشري، في ما لا يقل عن اثني عشر نزاعًا عسكريًا أو حربًا، وفي خمسين عملية عسكرية أو أكثر مختلفة الأهمية، مثل عمليات القصف المدفعي أو الغارات أو الاقتحامات البرية. هذا دون أن ننسى حالة الحرب الدائمة ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة منذ عام 1967.

من هنا تأتي أهمية كتاب «الحياة العاطفية للشعبوية: كيف يُقوّض الخوفُ والسخطُ والاشمئزاز والحُبُّ الديمقراطية» The Emotional Life of Populism (دار صفحة سبعة، 2025)، الذي تحلل فيه عالمة الاجتماع إيفا إيلوز كيف تؤثر المشاعر القوية مثل الخوف والاشمئزاز والاستياء والحُب في صعود الحركات الشعبوية وتآكل الديمقراطية.

في الكتاب الذي ترجمه محمد الرحموني، تشير إيفا إيلوز إلى أن هذه الانفعالات تُستخدم لتأجيج الانقسام وخلق صورة عدائية لـ«الآخر»، مما يبرر السياسات الإقصائية والاستبدادية. وتُظهِر كيف يمكن لحُب الوطن حين يُشحن بالعاطفة أن يتحوّل إلى أداة للتمييز لا للتوحيد. بذلك، تكشف إيلوز عن البعد العاطفي العميق في السياسة الحديثة، وتدعو إلى استعادة عاطفة مدنية تؤسس للعدالة والتعددية.

عبر صفحات الكتاب (320 صفحة من القطع المتوسط)، تدرس المؤلفة الطرق التي يعمد إليها الشعبويون لإثارة عواطف الناس ومشاعرهم؛ وقد ركزت في هذا السياق على ثلاثة مشاعر هي على التوالي: الاشمئزاز والسخط والحُب.

في مقدمة الكتاب، تقول إيلوز:

«من المدهش حقًا أن تتعلَّق جملة من الملاحظات قدَّمها أدورونو Adorno لجمهوره في محاضرة ألقاها في فيينا سنة 1967 بزمننا الراهن، وذلك بحكم البون الشاسع بين زمننا وزمنه. فقد أكد يومها أنه رغم الإعلان الرسمي عن انهيار الفاشية، فإن الشروط الاجتماعية لنشأة الحركات الفاشية ما زالت نشطة في المجتمع. ويُعزى السبب الرئيسي في ذلك، في رأيه إلى التوجه السائد نحو مَركَزة رأس المال، فهذا التوجه ما يفتأ «يوفر شروط انهيار طبقات من المجتمع كانت بمقتضى، انتمائها الطبقي، واعية بأنها تنتمي إلى البرجوازية ولدى أفرادها الرغبة الشديدة في الحفاظ على امتيازاتهم ومنزلتهم الاجتماعية وربما تعزيزها» (ص 11).

من هذا المنطلق، فإن الفاشية، بالنسبة لأدورنو، ليست أمرًا حادثًا في التاريخ، ولا هي انحراف عن القيم الديمقراطية، بل على العكس من ذلك، لقد نشأت من رحم الديمقراطية فهي مرتبطة بها أيما ارتباط. وهذا يعني أن الفاشية لا تحتاج إلى أن تتشكل في نظام متكامل مستقل بذاته حتى تنتشر وتسود. وعلى هذا الأساس، يمكن أن تكون الفاشية نزعة أو مججموعة من التوجهات والأفكار البراغماتية التي تعمل من داخل الإطار الديمقراطي.

تقول إيفا إيلوز : «ليست الشعبوية هي الفاشية، بل هي بالأحرى اتجاه فاشي، إنها قوة تضغط على المجال السياسي لمصلحة اتجاهات رجعية تنزع إلى معاداة الديمقراطية» (ص 19). وتعد الشعبوية واحدة من السبل التي يتم بواسطتها إعادة تشفير القلق الاجتماعي (ص 31).

ولعل أهم ما يؤكده هذا الكتاب أن السياسات الشعبوية في السياق الإسرائيلي نجحت في إعادة تشفير ثلاث تجارب اجتماعية خطيرة: ارتبطت التجربة الأولى بمختلف الفواجع التي عاشها اليهود على مدى تاريخهم، بما في ذلك نشأة دولة إسرائيل، والتي أعقبتها حرب ضد القوى الاستعمارية البريطانية والدول العربية المحيطة. لقد تمت ترجمة هذه الفواجع إلى خوف معمم من العدو. وتتعلق الثانية بعملية الاستيلاء على الأرض التي تحولت منذ سنة 1967 إلى موضوع لصراعاتٍ أيديولوجية محتدمة حول طبيعة القومية الإسرائيلية، في الوقت الذي أصبحت فيه الأرض موردًا اقتصاديًا. لقد ولّد احتلال الأراضي العربية سلوكًا عاطفيًا يتمثل في انفصام عُرى التواصل بين مختلف فئات المجتمع الإسرائيلي ونفور بعضها من بعض. وأما التجربة الاجتماعية الثالثة التي ينبني عليها الشعور القوي بالسخط فتتعلق بالتمييز والتهميش المُزمنين اللذين يعاني منهما اليهود المزراحيون، أولئك الذين وُلِدوا في الدول العربية أو الذين وُلِدَ آباؤهم في الدول العربية. لقد أدى هذا السخط بدوره إلى تحوُّل جذري في الخريطة السياسية، فمال الإسرائيليون نحو اليمين المتطرف (ص 31-32).

تترجم هذه المشاعر الثلاثة التي تُنعَت بكونها «سلبية» (الخوف والسخط والاشمئزاز) إلى حُب للوطن و/أو للشعب اليهودي. يتم التعاطي مع هذه المشاعر ضمن أُطر سردية تنهل مادتها من تجارب اجتماعية حقيقية. بعبارة أخرى، تترجم التجارب الاجتماعية إلى مشاعر وحوافز، وتصنع منها سرديات تتخذ بُعدًا عمليًا في المجال السياسي. يستدعي الفاعلون السياسيون هذه السرديات ويُفَعّلونها في صراعاتهم من أجل الظفر بالحُكم والسلطة (ص 32).

ترى المؤلفة أن هناك عدة أسباب تجعل من إسرائيل حالةً جيدة لفهم السياسات الشعبوية. يتمثل السبب الأول في رأي يوناتان ليفي وشاي أغمون: «في طول فترة حُكم نظامها الشعبوي.. فقد حكمت إسرائيل حكومات شعبوية لمدة عشر سنوات على الأقل. لذلك، فنحن إذًا إزاء مثال كفيل بأن بجعلنا على دراية بما يعنيه عقد من حُكم الشعبوية المتصل. لذلك ووفقًا للمؤلفَين، فإن السمات الرئيسية للشعبوية -بدءًا بشيطنة الصحافة والهيئة القانونية وانتهاءً بتسييس البيروقراطية الحكومية- كانت حاضرة في السياسة الإسرائيلية لمدة عقد من الزمن على الأقل» (ص 39).

يتألف الكتاب من أربعة فصول، خصصت المؤلفة الفصل الأول لدراسة ما سمّته «الديمقراطية الأمنوية» في إسرائيل وملخصه أن إسرائيل والخوف وُلِدا في مشيمة واحدة، فهما أخوان متلازمان منذ الولادة. ويتناول الفصل الثاني دور مشاعر الاشمئزاز في نحت هوية اليهود في فلسطين المحتلة؛ وقد حرصت المؤلفة على أن تربط بشكل مُحكم بين الدعاية والسياسة النازية التي عملت على إشاعة مشاعر الاشمئزاز من اليهود وما تفعله إسرائيل مع جزء من «مواطنيها» ومع العرب عمومًا والفلسطينيين بالخصوص. أما الفصل الثالث فقد خصصته للطرق التي ينتهجها الشعبويون في إسرائيل لإثارة مشاعر السخط عبر العمل الدؤوب على نكء جراح الماضي واستحضار عذابات اليهود منذ غابر التاريخ.

في الفصل الأخير، تتحدَّث المؤلفة عن صعود أيديولوجية قومية في إسرائيل هي أقرب إلى الفاشية والنازية سمّتها «قومية إقصائية» (في مقابل القومية الاحتوائية).

في آخر صفحتين من الكتاب، تحت عنوان «اليهود والكونية»، تنتقد الباحثة ضمنيًا الحكومة الإسرائيلية. وعلنيًا، تأسف على تحوُّل الشخصية اليهودية من العالمية إلى الانعزالية، والذي تعزوه إلى تحوُّل الدين اليهودي في إسرائيل إلى دين متصلّب فقد حيويته، مما سيضر باليهود واليهودية (ص 312). وتضيف: «كان اليهود، ومنذ القرن الثامن عشر، من الذين لعبوا دورًا كبيرًا في نشر المبادئ والقيم الإنسانية العالمية، لأن ذلك يحررهم من اضطهاد العصبية والتطرف، الذي كثيرًا ما كان يسود المجتمعات، التي كانوا يعيشون فيها. لكن هذا الدور الذي لعبه اليهود في تنمية القيم الإنسانية أشرف على الانتهاء. فنسبة عالية من اليهود داخل إسرائيل وخارجها تحوَّلت إلى تأييد الأحزاب والحركات العنصرية» (ص 309-310).

تستغرب إيلوز أن يحظى ترامب بتأييد 81% من اليهود المحافظين في الولايات المتحدة، وأن أغلب اليهود الفرنسيين، الذين يعيشون في إسرائيل، يصوتون في انتخابات الرئاسة الفرنسية للمرشح اليميني المتطرف إيريك زيمور. وفي مقابلة لها مع موقع forward.com بتاريخ 2 فبراير 2024، قالت: «إن قياديين شعبويين، مثل نتنياهو، لا يمكن أن يحققوا الأمن لإسرائيل، وإنهم يخاطرون بمستقبل إسرائيل للمحافظة على مكاسبهم السياسية. فهذا الشخص -نتنياهو- خطر جدًا على الدولة التي يدّعي الدفاع عنها».

لهذا الكتاب فائدتان. تتمثل الأولى في كونه شهادة من داخل إسرائيل (فالمؤلفة أستاذة علم الاجتماع في الجامعة العبرية) تكشف عن الأدواء التي تنخره وتجعل اضمحلاله من باب المفكر فيه من قبل اليهود الصهاينة قبل العرب والفلسطينيين. وأما الثانية فتتمثل في أن الفرق بين الصهاينة الرجعيين والعنصريين والاستعماريين والصهاينة التقدميين والليبراليين المنادين بحلّ الدولتين ليس فارقًا جوهريًا، فالطرفان لا يثيران جوهر المشكلة. وما يدفع هؤلاء الأخيرين إلى حلّ الدولتين، وما يتطلبه ذلك من إنهاء الاحتلال (للأراضي التي احتُلت عام 1967)، إنما هو الخوف من اضمحلال إسرائيل وليس تعلُّقًا بمُثل الحرية والديمقراطية والسلام.

إعلان

إعلان