إعلان

الهوية المصرية بين صخب الواقع وصمت المتاحف

مصطفى صلاح

الهوية المصرية بين صخب الواقع وصمت المتاحف

مصطفى صلاح
07:00 م الخميس 04 ديسمبر 2025

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تابعنا على

ليست الهوية المصرية سؤالًا طارئًا يُطرح عند الأزمات، ولا انعكاسًا عابرًا للظروف، بل هي نهرٌ خفيّ يجري داخل كل مصري، يسمع خريره حين يهدأ العالم، وحين تتوقف صُخُب الشوارع عن مطاردته. هي خليطٌ من طمي النيل، وصبر الفلاح، وحكمة الشيخ العجوز في الزاوية الضيقة، وصوت الباعة في الأسواق، ووجوه العمال التي تشبه جدران البيوت القديمة؛ متعبة لكنها واقفة.

ورغم هذا الامتداد الطويل، تبدو الهوية اليوم واقفة بين عالمين: عالمٌ صاخب يضجّ بالحركة والتغير، وعالمٌ ساكن يحتفظ بظلّ الحضارة القديمة داخل المتاحف، كأنهما جناحان متباعدان لطائر واحد يحاول أن يطير ولا يعرف أيهما يحمل الآخر.

في الشوارع، تصطدم الأعين بصور جديدة كل يوم، وتتشابك الأصوات في زحام لا يهدأ. وفي المتاحف، يقف التاريخ صامتًا، لكنه لا يصمت تمامًا؛ بل يهمس لمن يريد أن يفهم: "ما كان قد يكون مرة أخرى، إذا حافظت على روحك."

المتحف ليس مكانًا لعرض الماضي، بل مخزنًا للحقيقة العميقة لهذا الوطن. حين يقف الزائر أمام تمثال صامت أو لوحة محفورة قبل آلاف السنين، يشعر بأن الزمن ينكمش ويتسع في اللحظة نفسها. يرى نفسه، ويرى أسلافه، ويرى أن ما يعيشه كل يوم ليس بداية طريق، بل استكمال لمسار طويل بدأ قبل أن يعرف البشر كتابة التاريخ.

لكن الواقع لا يتوقف ليسمح للإنسان أن يستعيد صلته بهذه الذاكرة. فالمجتمع يندفع نحو المستقبل بسرعة تفوق قدرة الإنسان على الفهم. ضغوط المعيشة، وتبدّل العلاقات، وتغيّر القيم، وصوت مواقع التواصل التي لا تهدأ… كلها عناصر تصنع عالمًا جديدًا يريد أن يبتلع الوعي قبل أن ينضج، ويجعل الهوية أقرب إلى عباءة ثقيلة يُفضَّل تركها جانبًا، بدل أن تكون درعًا روحيًا تحمي الإنسان.

هذا الانفصال بين المتحف والشارع ليس أزمة ثقافية فقط، بل أزمة وجودية. فالأمم لا تنهض بالقوة المادية وحدها، بل بالقوة التي تربط حاضرها بماضيها. الحضارة ليست مباني شاهقة ولا طرقًا ممتدة، بل ذاكرة مستيقظة تُذكّر الإنسان بأنه امتداد لشيء أعظم منه. وإذا انفصل الإنسان عن ذاكرته، ضاع حتى لو امتلك كل أدوات العصر الحديثة.

الهويّة المصرية تقوم على ثلاثة مستويات متكاملة:

هوية المكان التي تشكلها الجغرافيا: نهر، ووادٍ، وصحراء، وريف، وحارات مدينة عريقة صنعت وجدانًا جماعيًا خاصًا.

هوية الإنسان الذي تعلّم كيف يحوّل الشقاء إلى ابتسامة، وكيف يصنع من النكتة وسيلة مقاومة، وكيف يحتفظ بعمقه الروحي حتى وهو يعيش وسط التعب.

وهوية التاريخ التي تُذكّر المجتمع يومًا بعد يوم بأنه ليس عابرًا في الزمن، بل صانعٌ له.

غير أن الضغوط الحديثة تدفع إلى تآكل هذه المستويات ببطء. المدينة الجديدة تُعيد ترتيب تفاصيل الحياة، فالمباني العالية تُخفي السماء، والطرق السريعة تُغيّب الأزقة التي كانت جزءًا من شخصية المدينة. الإنسان المرهق لا يجد وقتًا ليستعيد هدوءه، والذاكرة تُقدَّم أحيانًا بشكل جاف يجعل الجيل الجديد يشعر بأنها شيء لا يخصه.

مع ذلك، هناك لحظات تعيد لهذه الهوية بريقها، كأنها نبضة تعود إلى جسدٍ مغمور بالتعب. لحظة يقف فيها شاب أمام مومياء فرعونية فيتساءل: كيف عاش هؤلاء؟ كيف كتبوا حياتهم على الحجر؟ لحظة يسمع المصري فيها أغنية وطنية صادقة فتلمع الدموع في عينيه دون سبب ظاهر. لحظة يرى فيها علم بلاده يرفرف في موقف صادق، أو يسمع كلمات حكيمة من شيخ كبير، فتعود إليه ذاكرة قديمة لم يعرف أنه يحملها.

هذه اللحظات ليست صدفة، بل دليلًا على أن الهوية لم تمت، ولم تتآكل كما يظن البعض. إنها تنتظر من يوقظها، من يعيد ترتيب اتصالها بالحاضر.

وحتى يعود هذا الاتصال، لا بد من مشروع وطني وثقافي يعيد جمع شتات الروح: مشروع يقترب بالمتاحف من الناس، ويُعيد للثقافة حضورها داخل البيوت والمدارس والميادين، لا كترف، بل كأداة لفهم الذات.

على المؤسسات الثقافية أن تهدم الجدار الصامت بينها وبين المواطن، وأن تخلق لغة جديدة تُخاطب بها الجيل الجديد بلغة عصره، دون أن تفقد قيمة الماضي. وعلى المجتمع أن يستعيد احترامه للقيم الأصيلة التي تحفظ إنسانيته. وعلى الإعلام أن يتوقف عن تقديم الثقافة كزينة، ويقدمها باعتبارها ضرورة للمجتمع لا تقل عن الخبز والماء.

فالهوية المصرية ليست شعارًا يُرفع، ولا ماضيًا يُعلّق على الجدران، ولا كلمات تُكتب في الكتب المدرسية. هي نبعٌ داخليّ يعيد للإنسان توازنه، ويمنحه قوة على مواجهة الحياة. من يمتلك هوية سليمة يمتلك القدرة على الوقوف ثابتًا مهما اشتدت العواصف.

وفي النهاية، تبقى الهوية المصرية كالنيل:

ربما تتغير ضفافه، وربما تعلو مياهه أو تنخفض، وربما تتغير المدن على جانبيه، لكنه يبقى نهرًا لا يفقد جوهره.

وكذلك المصري… قد يتعب، وقد يمرّ بظروف صعبة، وقد يبدو أحيانًا كمن فقد ملامح روحه، لكنه ما إن يلمح ظلًا من ماضيه، أو يسمع نداءً من حضارته، حتى يعود أقوى مما كان.

فبين صخب الواقع وصمت المتاحف، يقف المصريّ لا ضائعًا ولا ممزقًا، بل واقفًا في منتصف الطريق… يشبه حجرًا فرعونيًا صمد آلاف السنين، وما زال قادرًا على أن يحكي حكايته لمن يريد أن يسمع.

إعلان

إعلان