إعلان

أين مضت حكايات "الجنيات" يا أبي؟!

د. هشام عطية عبد المقصود

أين مضت حكايات "الجنيات" يا أبي؟!

د. هشام عطية عبد المقصود
07:25 م الجمعة 11 يونيو 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يتوازى سيرهم لتتصافح وجوه ركابهم عبورًا حين يمرون ببعضهم، كما تفعل ذلك قطارات السكك الحديدية التي ألفها صغيرًا، وهي تبدأ طريقها منطلقة من مركز محطة المدينة الكبيرة في الدلتا، تمضي متوازية وأحيانًا معًا في اتجاه واحد، ثم حيث تقاطع ما يتخذ كل منها وجهته نحو سفره في اتجاه محطة مدينة المحافظة التي سينتهي مشوار القطار وركابه فيها، هكذا كانت الحياة كما بتفاصيلها تمضي متوازية في مسارات ذلك الزمان الذي يشحب رويدًا، بينما التاريخ يظهر أعلى سبورة الفصل السوداء ذات التعرجات الصغيرة والتي لا تميزها إلا حين تدقق النظر في صفحة امتدادها اللامعة المستوية، كانت إحدى سنوات النصف الأول من عقد سبعينيات القرن العشرين.

تلك القصص التي اكتمل بعضها، وتلك التي ما زال ختامها مفتوحًا، والتي تجمعت تفاصيلها عبر هدأة توارد سير الأيام فيما يشبه حكاية واحدة لمساري حياتين متكاملتين، تتوازيان حينًا وتفترقان حينًا، حتى يجمعهما التقاء في نقاط تقاطع، صبيًا صغيرًا يبتهج بكتاب القراءة ذي الأناشيد التي تنتهي مقاطعها بحروف اللغة ذات الجرس الموسيقي الرنان، يقضي كل أيام العام الدراسي في منزل أسرته في الحي القاهري، بينما يواظب والده على أن يصطحبهم إلى حيث دار الجد في كل عطلة أو إجازة متاحة، هناك في تلك القرية الصغيرة ذات التعداد الصغير وبما يمنحك شعورًا أنت الزائر كثير التواجد أنك تعرفهم جميعًا، إن لم يكن بالقرابة فبكثرة اللقاء في مناسبات وأعياد وجلسات، حتى أصر في أحد الأعياد أن يحصي سكانها بطريقته، فأضاف إلى كل من سلم عليهم والتقاهم في "المضايف" صباح العيد ما يماثل ثلاثة أضعافهم من أطفال ونساء قدر أنهم لم يخرجوا إلى المضايف، فلم يزد تعدادها حينها في أكثر حساباته عن خمسة آلاف شخص.

تتراص البيوت متلاصقة في نطاق القرية متحلقة حول المسجد الوحيد الذي يتوسطها، متخذة شكلًا بيضاويًا ينتهي بالترعة الكبيرة، حيث مدخل القرية، ومن ناحية أخرى بشريط القطار الوحيد الذي يصنع نقاط حدودها مع القرية الأخرى المجاورة، وما سوى ذلك هي الحقول تمتد بلا فواصل من أي شيء يجرح سير امتدادها، وحيث يمكنك من أقصى "غيطان" تلك القرية أن ترى مرور القطار الوحيد على حدودها البعيدة، والذي اعتاد أهل بلدته أن يؤرخوا به المواقيت، فهذا قطار الحادية عشرة والنصف إشارة بأنه قد أوشك موعد أذان الظهر، ومن بعده سيأتي من يحمل إليهم طعام الغذاء، حيث جده طويل القامة مألوف القسمات طيب الصوت بعباءة وشمسية بيضاء ناصعة، يأخذه دوما معه، يسيران وقد أمسك بيديه، ثم يجلس معه على حصير تلمع عيدانه الرفيعة المتراصة في ضياءات الشمس الصباحية اللينة التي ترسم عليها أشكالًا متنوعة، فيأتي إليه من حوله؛ ليتحلق الجمع تحت الشجرة العتيقة التي تقف متفرعة مظللة على "راس الغيط" وإلى جوارها طلمبة المياه، وذلك قطار السادسة إلا الثلث، حيث توشك أن تنتهي صيفًا استعدادات العودة فيمتطون الحمير ويصطحبون المواشي إلى حظائرها في البيوت، كل يوم تعاود الحياة تواتر أيامها حتى توشك أن تتيقن من تطابق مسيرتها بذات التفاصيل الصغيرة؛ لتمر الساعات والدقائق في تلك الأعوام مسترخية كأنها ألف عام لا توشك أبدًا على الانتهاء.

في تلك المسافة بين منزلهم في القاهرة ودار جده في القرية عاشت الحياتان منسجمتين بلا خلل ظاهر، فلم تكن الأيام مجرد مسافة زمنية تساوي حسابيًا ما يقطعه القطار في سيره، كانت جسرًا بين زمنين، وحينها عرف لماذا تصير القاهرة لدى كل القرويين في كل المحافظات تحمل نداءً واسمًا وتفخيمًا جمًا "مصر"، فهم يقولون حين يقرر أحدهم أن يأتي لزيارة قريب له أو قضاء شأن ما إنه "رايح" مصر، أما القاهريون فيقولون عن رحلتهم العكسية "مسافر البلد"، بين اختلافات وتشابكات أحرف وكلمات الذهاب والعودة تلك كان الزمان وتفاصيله جميعها تتمطى بينهما افتراقًا وتلاقيًا وتوقفًا أحيانًا.

سبيكة من فضاء خيال وأحداث واقع يتداخلان مزيجًا فلا ينصهران تفككًا إلى عناصرهما الأولى متفرقين قط، ولم تكن الكهرباء قد دخلت القرية بعد، وحيث تعيش البيوت الفسيحة الكبيرة ذات الطابقين مساء على إضاءة "اللمبة الجاز" وأحيانًا ضوء الكلوبات المتوهج، والتي تعمل بالغاز وتستخدم في المناسبات التي تجمع الأقارب، أو في دعوات احتفالات الموالد التي يقيمها أهل الدار، بينما يستيقظ كل من في دار جده مع أول افتراق للخيطين الأبيض والأسود من الفجر.

لم يسمع أبدا شيئًا عن حكايات الجنيات والعفاريت في منزلهم القاهري، لم ترد خيوط سيرتها ولا دارت قصصها في أمسيات زيارة الجد والأقارب المتعجلين على العودة دومًا إلى البلدة، لكنه وهو هناك صبيًا في سنته الابتدائية الأولى أو الثانية لا يسعه أن ينسى حكاياتها طقسًا متكررًا في جلسات أول الغروب ومع مقدم الليل حين يجلسون يشربون الشاي على ضفة الترعة الصغيرة، وإلى جوار بدايات الحقول التي ترعي فيها مواشي العائلة والجيران، يجلس على هامش دائرة اجتماع الأب والأعمام والجيران منصتًا لضحكاتهم وحكاياتهم، ثم فجأة تسري ذكريات بينهم عن تلك الجنية التي كانت تربض دومًا في مكان ثابت عند "ساقية" محددة وبحيث أنه كلما مر أحدهم تظهر له وتحادثه بشيء حتى يقول لها ردًا تنتظره، وحينها فقط تفلته ليمر، أو عن ذلك الصوت الذي لا يتوقف عند جسر بدائي في نهاية الزراعات في منتصف الليل، يحكون دومًا ذلك كمشاهد واقعية رأوها وعاشوها أطفالًا أو على الأقل سمعوها من آباء وأعمام وجيران أقدم، ينصت لها ويثبتها في ذاكرته ثم يتحاشى مروره هناك ليلا، لكنه إذا مر عليها نهارًا يتأمل مدققًا يبحث عما غيبه ضوء النهار وشمسه القوية، كانوا يتداولونها كوقائع مثبتة ويشيرون إلى كونها ظلت تحدث حتى وقت قريب قبل هدم بيت فلان أو تعلية ذلك الطريق القديم، وكان ينظر إلى وجه أبيه أولا ثم يصدقهم تمامًا.

في أوائل الثمانينيات وفي سنواته المدرسية الأكبر، كان يجلس هناك ويجتمع في جلسة يتحلق فيها من حضر من أهل وجيران وزملاء وأعمام وقد غاب حضور جده، لكنه أبدًا لم يكن يسمع حكايات جنية الساقية ولا صوت الطفل الصغير الذي يظهر مع الطريق المفضي إلى البلدة المجاورة، كان كل ذلك قد اختفى من الحكايات، غاب أبوه أيضًا بعد ذلك، وظل يجلس هناك مع وجوه كبرت كثيرًا وقد رافقته صغيرًا، يقولون أشياء كثيرة تتداخل وتتشابه بينما ترمي شعاعات شاحبة تسري من أعلى أعمدة الإنارة المثبتة على أول الحقول ضوءًا مصفرًا على الشوارع المفضية إلى البلدة، والتي صارت أطول كثيرًا وزادت بيوتها بشكل صار يدرك أنه أكبر من قدرته على أن يحصي عدد سكانها، وكان كلما وقف محاولًا أن يتخذ موضعًا ليرى منه مرور القطار الذي طالما أحب رؤيته وهو يمضي على الشريط الوحيد بينما تترى الحقول على جانبه كأنه سفينة فضائية تأتي من البعيد، كان يقف كثيرًا، وينتظر لكنه أبدًا لا يرى شيئًا.

إعلان