إعلان

" الحركي"  نموذجًا

خليل العوامي

" الحركي" نموذجًا

خليل العوامي
07:00 م الإثنين 04 أكتوبر 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بعض الجرائم قد يغفرها المجتمع، وأخرى قد يطويها النسيان، وتذوب وسط تقلبات الزمن، بل إن بعض جرائم الدم، في مجتمعاتنا الشرقية، قد يعفو فيها أصحابها ويتنازلون عن الثأر، لكن تظل جريمة " الخيانة " باقية في رقبة مرتكبها إلى ما لا نهاية، وحتى بعد موته فإن عارها يطارد أبناءه وأحفاده من بعده.

فقد اتفقت كل المجتمعات باختلاف ثقافاتها على فظاعة "خيانة الأوطان" وأنها أم الجرائم لا يصلح فيها عفو القانون، ولا تتسامح فيها الشعوب، ولو نال مرتكبها العقوبة القانونية.

ليس أكثر دلالة على ذلك من ملف "الحركى" بين الجزائر وفرنسا، هذا الملف الذي ظل شائكا بين الدولتين على مدار ستين عاما منذ تحرير الجزائر عام 1962، ومع كل عام يتجدد، فيتذكره الجزائريون كأحد الجروح الغائرة لعقود الاحتلال الفرنسي لبلادهم، ومآسي سنوات التحرر الوطني.

ويطلق الجزائريون لفظ "الحركي" ويجمع "الحركى أو الحركيون"، على الخائن أو العميل، والحركيون هم الجزائريون الذين انضموا لصفوف القوات الفرنسية وقاتلوا إلى جوارها ضد شعبهم أثناء ثورة الجزائر 1954-1962 .

شكلت فرنسا "الحركى" وكان عددهم حينها يقدر بحوالي 150 ألفا، لمساعدة جيشها في اصطياد الثوار، والقضاء على الثورة الجزائرية.

وكانت الفكرة الأساسية تعتمد على تكوين ميليشيات من أبناء البلد الذين يعرفون تضاريسه وخباياه، ويمكنهم الوصول إلى مقار ومخابئ الثوار بصورة أسهل.

أما الحركيون أنفسهم فقد ظنوا أن فرنسا باقية للأبد، وأنها لن تخرج من الجزائر، لذا رأوا أن مصالحهم الشخصية مع الاحتلال، فتطوعوا في صفوف الخيانة، وقرروا بإرادتهم بيع وطنهم وشعبهم، طمعا في المكاسب الشخصية.

وفي سبيل المكاسب الشخصية فعل الحركيون كل شيء، وارتكبوا أفظع الجرائم، فقد حملوا سلاح المحتل، وأرشدوا عن أماكن المقاومة، وقتلوا الثوار، بل وشاركوا في عمليات تعذيب ممنهجة لمن ألقي القبض عليه من رجال الثورة.

ورغم كل ما فعله الاحتلال الفرنسي و"الحركى" انتصرت الثورة الجزائرية بدماء مليوني شهيد، وتحررت الجزائر، ونالت استقلالها، فما كان من الجيش الفرنسي إلا رد الجميل للخونة بخيانة مماثلة.

فقد صدرت الأوامر للقادة الفرنسيين في الجزائر بتجريد "الحركيين" من سلاحهم، ومنعهم من الرحيل إلى فرنسا مع القوات المغادرة، ليتركوهم في مواجهة الثوار، ليلقى عدد كبير منهم مصير كل خائن.

وحتى الآلاف من "الحركى" وأسرهم الذين استطاعوا بطريقة أو بأخرى الهرب إلى فرنسا، ألقي بهم كالفئران في مخيمات تشبه السجون المفتوحة، تفتقد لأي مقومات للحياة، فلا طعام كاف، ولا أغطية في الشتاء، ولا خدمات صحية.

وظل "الحركى" في هذه المخيمات حتى منتصف السبعينيات عندما نظموا اضرابا كبيرا، بدأت بعدها الحكومة الفرنسية في نقلهم إلى مناطق شعبية فقيرة، ولكن ظلوا أيضا مهمشين منبوذين، بلا وظائف وبلا تعليم لأبنائهم.

ورغم اعتراف رؤساء فرنسا مؤخرا بأن بلادهم لم تعط "الحركى" مكانهم الذي يستحقونه، ثمنًا على خيانة وطنهم ودعمهم للاحتلال، ورغم أنها عملت على تحسين أوضاعهم، وتجريم سبهم، ومنح أبنائهم الحق الوظائف، رغم كل هذا يبقى "الحركى" منبوذين داخل فرنسا إلى اليوم، حتى من قطاع كبير من الفرنسيين أنفسهم.

وبعد كل هذه العقود تظل الجزائر دولة وشعبا غير قادرين على العفو عن هؤلاء الخونة، ويجددون رفضهم مساعي الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون لمنح "الحركى" المولودين في الجزائر حق العودة إليها.

فكما تخلد الشعوب أبطالها وشهداءها، تبقى اللعنات تطارد الخونة أينما حلوا، ومهما طال الوقت .. ويبقى السؤال في حالة "الحركى".. حتى وإن عادوا للجزائر فكيف سيواجهون أبناء وأحفاد الثوار الذين قتلوهم وعذبوهم لصالح المحتل؟

إعلان