إعلان

 على هامش الصّورة

د. محمد عبدالباسط عيد

على هامش الصّورة

د. محمد عبد الباسط عيد
07:00 م الجمعة 05 يونيو 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تُثير الصّور الفوتوغرافية، القديم منها والحديث، كثيرًا من التّأملات؛ كل صورة لها سيرة مثل أصحابها، يمكن الحديث دائمًا عن حكاية الصورة، عن صاحبها: من هو؟ وعن هدفه من الصورة؟ هل هي صورة رسميّة أم عائليّة؟ ما شكل ملابسه وثقافته وطبقته التي ينتمي إليها، أو الطبقة التي يطمح أن يكون منها...؟

كل صورة لها متن أساسيّ، ولها هامش وخلفيّة، وكثيرًا ما ننشغل بالمتن عن الهامش، ولا نُدرك العلاقة الجدلية بينهما، وأن الهامش يمكنه أن يثري الصورة ويمنحها العمق الدلالي المطلوب.

أحاول هنا أن أتأمّل قيمة الهامش وليس المتن، أن أتابع درجات الظلال المحيطة بالكتلة الأساسيّة، أحاول أن أصف الجدل القوي بين المتن والهامش، وأن أقول لك: إن ما نراه هامشيًّا وظلًا عابرًا كثيرًا ما يكون ضروريًّا وأساسيًّا، وأننا لا ننتبه بما يكفي إلى قيمة الهوامش في حياتنا. وأننا نشعر بوحشة الفراغ الكبير حين نفقد الهامش أو ما نظنه كذلك.

لقد أدرك صُنّاع الصّورة أهمية الهوامش والخلفيات، فمثلًا في الصّور الرّسمية لكبار السّاسة والقادة يبرز الهامش قويًّا ومؤثرًا، فخلفية الصّورة أو هامشها لا يُترك للمصادفة وإنما يخضع لبروتوكول معروف، فأنت تشاهد كيف توضع الأعلام بالتبادل خلف الرؤساء حين تكون الصّورة خاصة بمؤتمر ثنائيّ، فخلفية الصّورة هنا لا يمكن أن تكون أهم من الكلام الذي سيقوله الرئيسان، ولكنها تبعث برسالة قوية عن عمق العلاقات بين البلدين؛ فحين يضعُ رئيس ما عَلَم بلد آخر خلف ظهره فهذا يعني أنّ العلاقات بينهما تقوم على التعاون والتكافؤ، وأنهما يسعيان معًا إلى تحقيق مصلحة مشتركة.

وبعيدًا عن الصّور الرسمية، يمكنك أن تتابع عشرات الصور التي يتراجع فيها المتن لصالح الهامش، بمعنى أن الهامش يتقدم ليغدو هو الموضوع، وذلك حين تشاهد صورة لأحد زوّار معبد أبي سمبل، هذا المعبد العالمي الشهير، ومن السّهل أن نجد له كثيرًا من الصّور التي التقطها له مصورون عالميون ومن زوايا مختلفة، ولكنك حين تزور المعبد ومعك كاميرا الموبايل فحتمًا سترغب في التقاط صورة أمام هذا المدخل العظيم، إذ ليس من السهل على زائر أن يطرد فكرة توثيق هذه اللحظة من رأسه، وهنا ستأخذ الصّورة معناها من الخلفية التاريخية لواجهة المعبد الشهير، سوف يُهيمن هامش الصورة على متنها، فأنت تريد أن تقول لأصدقائك: لقد كنت "هناك" وأن هذا الـ"هناك" هو أصل الموضوع..!

وإذا تجاوزنا الخلفيات التّاريخية إلى صورتك أنت على شاطئ النهر، أو في الحقول الخضراء المنبسطة، حيث الفراغ الممتد خلفك بلا نهاية، هنا ستكون الخلفية بجوار المتن، ستدلّ عليك بقدر دلالتك عليها، فصورتك في الحقول قد تشير إلى أصلك الريفي، وإلى اعتزازك بهذه الأصول، وقد تشير إلى روحك التّواقة، وإلى تقديرك الكبير للطبيعة مقابل المدينة.

1591375969978_2015_3_7_0_6_7_524

سوف نتوقف هنا إزاء صورة محددة نحاول فيها مناقشة العلاقة بين المتن والهامش، فقد نشر موقع مصراوي في 8 مارس2015م صورة نادرة للشاعرين محمود درويش وعبدالرحمن الأبنوديّ تتوسطهما الكاتبة صافيناز كاظم، لقد التقطت الصورة في أحد شوارع القاهرة الشّعبية عام 1970م، وهذا تاريخ مهم، بعد نكسة 67 وقبل انتصار أكتوبر المجيد، لقد بدت الصّورة عفويّة إلى حدّ كبير؛ فقد كان الأبنودي يسير بجدية وهو ينظر إلى الأمام، في حين انهمك الشاعر درويش مع الكاتبة كاظم في حديث وديّ ضاحك.

في مثل هذه الصورة لا يتصور أحد أن ينشغل المتلقي بغير المتن الاستثنائي؛ فنحن إزاء صورة تضم ثلاثة أسماء شهيرة في دنيا الشعر والصّحافة، ويبدو أنّ الصّداقة بينهم قوية؛ فقد كانوا يسيرون بأريحية في شارع يميل إلى الزّحام، وهذا يعني أنّهم يسيرون في طريق يعرفونه جيدًا.

تُهيمن على الصورة أجواء فصل الشّتاء؛ فالثلاثة يرتدون ملابس أوروبية ثقيلة، وبدت الكاتبة كاظم كفتاة أوروبية متحررة وهي تسير بين الشاعرين، وخلف هذه الصورة هامش عاديّ، ممتدّ وطويل، بالتأكيد لم يخطر ببال من التقط هذه الصورة أن هامشًا كهذا قد يعني شيئًا. ورغم ذلك فقد منح الصورة بتلقائيته بعدًا إنسانيًا دافئًا، وفكريًّا إشكاليا؛ فقد أطّرها بالعابرين الذين وجدوا في هذه اللحظة بالمصادفة، وهم بالتأكيد لا يعلمون شيئًا عن هذه الصّورة، ولا يعرفون شيئًا عن القيمة الثقافية الكبيرة لهذه الرموز.

على يمين الصورة تشاهد دكانًا صغيرًا لبيع الملابس الشعبية، ولا يظهر من لافتته الكبيرة غير الجزء الأخير من اسمه، يليه دكان آخر متهدم الواجهة، ولا تُظهر الصورة نوع النشاط الذي يقوم عليه... تهيمن على الهامش صورة امرأتين مصريتين ترتديان "المَلَس" الأسود، لم يعش "الملس" طويلا بعد تاريخ هذه الصورة؛ فقد اختفى بعد سنوات قليلة من انتصار أكتوبر وحلّت مكانه أزياء أخرى، تناسب انفتاح الاقتصاد وهجرة المصريين إلى دول الخليج.

تبدو المرأة الأقرب إلى الصورة – لعلها وحدها من انتبهت إلى كاميرا المصور – في أوائل العشرينات، كما تبدو المرأة التي تليها أكبر منها بمقدار الضعف، ورغم ذلك فالسيدتان تنتميان إلى طبقة واحدة، وترتديان زيًّا شعبيا واحدًا، وبالتالي فهما تحملان قيمًا واحدة حول وجود الجسد الأنثويّ في الفضاء الاجتماعيّ، وهي قيم أصيلة، يلتزم بها الصغار والكبار جميعًا، ولكنها تبتعد عن القيم التي يمثلها الجسد الأنثويّ المتحرر للكاتبة كاظم بملابسه الحديثة وضحكتها الواثقة التي تخللت الحوار بينهما وبين الشاعر محمود درويش، لا تشبه كاظم أيًّا من المرأتين اللتين في الهامش، تمامًا كما أن درويش والأبنوديّ لا يشبهان الرّجال الذين يتحركون خلف الصورة، باستثناء رجل واحد يرتدي الزّيّ الأوروبيّ، ولا يكاد يظهر في الزّحام...!

يمثل المتنُ برموزه المهمة الثقافةَ الحديثة، إنهم يتحركون بثقة ورشاقة إلى الأمام، إنهم يعرفون وجهتهم جيدًا، ولكنهم –بكل أسف– يسيرون وحدهم، وتبدو العلاقة بينهم وبين الجموع خلفهم واهنة إلى أقصى درجة؛ إنهم لا يشبهون أحدًا ممن هم في هامش الصّورة، ولا أحد في الهامش يُدرك أن هذا الشارع يسير فيه –الآن- شاعران كبيران وكاتبة، فالهامش مشغول إلى أقصى درجة في معاشه اليومي، كما أنه منهك الحركة ثقيل الخطى..!

وحده الرجل ذو الزِّيّ العسكريّ في أقصى يمين الصورة يسير بخطى واثقة، ولكن في مسار معاكس لمسار هذه الطّليعة المثقفة، إنه لا ينظر إليهم ولا يراهم، مثله في ذلك مثل باقي المدنيين في الهامش، ولكن اللافت أنه يسير في اتجاه الجموع، بخلاف النخبة التي تسير وظهرها للجميع ..!

هناك حكمة قديمة تقول: إن ما تظنه مصادفة ليس كذلك في الحقيقة، وإن ما يبدو لك عفويًّا وغير مرتب قد يكون جزءًا من عدة أنساق مركّبة.

إعلان