إعلان

أيام في بيت المحترم ممدوح عبد العليم

د. أمــل الجمل

أيام في بيت المحترم ممدوح عبد العليم

د. أمل الجمل
07:00 م السبت 30 مايو 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

«بابا الحبيب.. سأظل أفتقدك للأبد. هتفضل في وجداني وذاكرتي، حأفضل أحبك طول العمر. مش قادرة أقولك إزاي الدنيا صعبة ووحشة جداً من غيرك، مش متخيلة إني أصحى كل يوم من غير ما أشوف ابتسامتك الجميلة وروحك الرائعة وحبك اللي من غير شروط».

إنها الكلمات التي كتبتها هنا ممدوح عبد العليم في رسالة إلى والدها، عقب رحيله المفاجئ المفجع. والتي أرفقتها زوجته وحبيبته ورفيقة مشواره المذيعة شافكي المنيري بكتاب - صدر منه الطبعة الثانية بداية هذا العام - بعنوان «أيام في بيت المحترم..» عن دار نهضة مصر.

تستهل شافكي كتابها بعبارات دوّنها ممدوح نفسه وبخط يده، كان فيها متسائلاً: «ممدوح عبد العليم.. مَنْ يكون؟! هل هو فنان سوف يُحقق ذاته؟ هل هو فنان يُعبر عن جيله بمشاكل الشباب الحقيقية؟ هل يُعبر عما بداخله بصدق دون مغالاة وافتعال؟ هل.. هل.. هل؟؟ كثير من الأسئلة تدور داخلي في كل عمل أقوم به.. لكن داخلي أمل كبير في أن أحقق شيئا ذا معنى في المجال الذي عشقته طول عمري».

ما فعلته شافكي تجربة صعبة. أن تفحص أشياءه وتفاصيل مكتبه ومحتوياته أمر صعب ومؤلم، أن تحكي عمَنْ تحب أمر مُوجع، خصوصا في الأشهر الأولى للرحيل. الكتابة للأحباب عندما يرحلون أحياناً تكون مريحة كأننا نحادثهم، لكن تلمَس أشياءهم، أوراقهم، تعليقاتهم، كتبهم، ملابسهم أمر مؤلم. في البداية قد نفعل ذلك متلمسين فيها ومنها القرب منهم، كي نشتم فيها رائحة وجودهم، وعطر أيامهم الحلوة معنا. لكن المؤكد أن رؤية صورهم في كافة اللحظات، في المرح والغضب، والحزن، والشرود، أمر فوق الاحتمال في الأشهر الأولى من الرحيل.. وها هي شافكي تعترف بأنها في بعض اللحظات لم تكن تقدر على ذلك، وتنهمر دموعها فتترك الأشياء شهوراً ثم تعود بعد أن تتحسن حالتها، لتبدأ من جديد.

لكن، لماذا قررت شافكي المنيري تأليف هذا الكتاب، هل لتسرق نفسها من قسوة الغياب؟ هل رغبة في أن تستحضره عنوة وتُقيم في هذا الحضور الذي بجلاله ينفي الغياب ويُؤكده في آن واحد؟ إنها تقول: «أُدرك أن قيمة ممدوح عبد العليم الإنسانية هي التي خلقت منه فناناً أحبه الناس، ولأن حياته الإنسانية بعيداً عن كواليس الفن كانت ذات ملمح يستحق أن يُروى، فوجدت قلمي رغم آلام الرحيل يشدني لأدون أيامه وملامحه كإنسان وفنان تمنيت أن يعرفه الناس ليُدركوا أن الإنسانية لا تزال تحيا في قلوب صادقة آمنت بها».

عبر صفحات الكتاب المتنوعة تأخذنا شافكي في رحلة جميلة عذبة - لا تخلو من مشاركتها الحزن - لتُطلعنا على أشياء ممدوح الإنسان والفنان الذي رسم خطوط مشواره بيده وبرغبته وباختياره.. تحكي عن الاختيار الواعي المتمهل والمدقق الذي عرّضه للظلم والاتهامات بالتعالي أحياناً.. تحكي عن أسلوبه في مواجهة الظلم بالترفع والتطلع للغد، وكأنه لا يرى ذلك الظلم فهو لا يحب أن ينظر وراءه، فـ«كثيرا ما واجه ممدوح حرباً في عمل ما.. أو اتهاماً بالغرور والانطوائية والبعد عن المجتمع أو أنه حنبلي في عمله.. كان ممدوح إنسانا بسيطاً سعيدا وهادئاً، متسلحاً بالقناعة والرضا. كان يكره الحزن والكآبة ويعشق الفرح ويبحث عن البساطة والسعادة».

تصفه بالمشاغب الضاحك المحب المساند للجميع.. لكنه وقتما يبدأ الاستعداد لعمل جديد يلجأ للصمت التام والانعزال مع أي عمل يقدمه حتى ينتهي من تصويره وإذاعته للجمهور، تحكي المنيري عن كواليس عديد من الأعمال وسر قبوله أو رفضه، أو تردده، ثم عدم رضاه بعد مشاهدة نتيجة «سيدة مصر الأولى»، وإن كان ممدوح عبد العليم لا يمنح هذا الشعور بعدم الرضا الفرصة ليستمر طويلا إذ يقرر أن يستفيد من التجربة، ثم نسيانها والتفكير في الجديد، أو السفر لزيارة الأماكن التاريخية والمعابد وممارسة رياضة المشي والعدو والقراءة.

يُحسب لشافكي بهذا الكتاب احترامها لرغبته، وعدم الإفصاح عن أشياء وتفاصيل كثيرة تعرفها عن الظلم الذي تعرض له ممدوح أو الحيرة التي أصابته.. فمثلما صمت عنها في حياته قررت شافكي ألا تبوح بكلمة منها بالكتاب «لأنها له ومن أسراره، وهو لم يتكلم عنها فترك نضوجه وترفعه رسالة لأي ظالم أو ظلم وقع عليه».

لكنها تحكي عن المساحة من الاحترام بينهما فيما يتعلق بخصوصية العمل، فممدوح كان يفضل عدم الحديث عن أعماله مع أقرب الأقربين إليه، وهو أمر يصعب أن تتقبله أو تستوعبه امرأة، لكن شافكي لم تكن امرأة عادية وإلا كيف اختارها ممدوح هذا الإنسان المثقف، لتشاركه حياته ولتصبح نصفه الآخر، فقد كانت على خط تماس مع شخصية ممدوح ووجدانه.

قبل أن تحكي عن تفاصيل يوم الرحيل تحكي عن علاقة الصداقة التي ربطت بينهما بالتوازي مع حبهما وزواجهما، عن طبيعته في العمل، خصوصاً أثناء الاستعداد لأي عمل جديد، ثم أحواله وطقوسه أثناء فترات التصوير، تحكي عن اندماجه وتلبسه روح الشخصيات التي كان يُؤديها، تبوح لنا بمشاعرها إزاء هذا التلبس وإدراكها لذلك الدخول والخروج من عوالم شخصياته التي كان يعود بها إلى البيت ليلاً، فتتركه ينام ولا تفاتحه في أي نقاش؛ إذ تنتظر للغد حتى يعود إليه ممدوح عبد العليم، ويخرج من جلباب شخصية رفيع بيه أو أي شخصية أخرى.

تحكي عن روتينه اليومي في غير أيام التصوير، مع فيروز وقهوته الصباحية وإفطاره البسيط، ثم الخروج لممارسة الرياضة والقراءة.. تجعلنا شافكي بأسلوبها الرقيق الدافئ البسيط والصادق في الحكي نشعر بألمها عندما تدخل بنا إلى مكتبه لتطلعنا معها على كثير من كتبه واهتماماته في القراءة خصوصا السياسية التي دعمتها دراسته للعلوم السياسية.

تحكي عن ممدوح المحب المتواضع الذي لا يخجل من أن يقوم بالتسوق وشراء ما يحتاج إليه المنزل، وحبه لمفاجأة الجميع بأشياء كثيرة وجميلة.

تحكي عن ممدوح الإنسان المنظم، العاشق للموسيقى عزفاً وغناءً، والذي ظهر في بعض أعماله مثل «سوبر ماركت»، و«الحب وأشياء أخرى».. ثم التدريب المكثف - بحضور متخصص - على مدى شهور استعداداً لأداء شخصية بليغ حمدي، لكنه بعد أشهر من التدريب عاد، واعتذر عن المسلسل عندما شعر بأنه لن يخرج بالصورة والمستوى اللذين يليقان ببليغ حمدي.

تحكي عن ولعه بعمله لدرجة استعداده الدائم للتنازل عن جزء من أجره لخدمة العمل؛ لأن المهم عنده دوما هو جودة العمل. تحكي عن أحلامه لبلده، ورغبته وإيمانه بالفن في خدمة قضايا الوطن، فعندما وقعت أزمة الكشح بالصعيد وانفجرت أحداث الفتنة الطائفية قرر ممدوح عرض مسرحية شعرية قدمها على المسرح القومي «بالأحضان» من أشعار صلاح جاهين، وسافر ممدوح بالعرض إلى مدن الصعيد المتعطش للفن، فساهم في لم الشمل.

تأخذنا شافكي بقلب مفتوح في رحلة إلى العالم الخاص لممدوح، تطلعنا على كثير من كتبه وعليها تواريخ القراء والانتهاء منها وتوقيعه، في مكتبته نقرأ ملاحظاته، ألبومات الصور، الأرشيف الصحفي الخاص به، تحكي عن أقرب الأدوار إلى حقيقة ممدوح عبد العليم. تراوح بين عدد من الشخصيات لكنها في كل مرة تؤكد أن رفيع بيه في مسلسل «الضوء الشارد» هو الأقرب لشخصية ممدوح الحقيقة.

بالكتاب كثير من التفاصيل الإنسانية، به جوانب لم نكن نعلمها عن ممدوح عبد العليم فيزداد احترامنا وحبنا له.. هناك، سنقرأ تعليقاته ورؤيته النقدية المكثفة لأدوار قام بها، أو أخرى لم تكن من نصيبه.. سنجده يصف دورا امتدحه النقاد بأنه «دور عادي بفيلم عادي»، أو وصفه لتجربة مسرحية بأنها من أمتع الأعمال المسرحية التي قدمها، أو لقطة من حوار يعبر فيه عن أن جيله مظلوم، وله اعتراف آخر متواضع بأنه «ليس من نجوم الصف الأول»، أو أنهم يتهمونه بالغرور ظلماً لأنه يقوم فقط بالأدوار التي يقتنع بها.. بينما الحقيقة التي تكشفها حبيبته أنه كان يضع بمكتبه - إلى جوار الجوائز - تمثالاً من الفخار لفلاح بسيط ظل يقول عنه دائما: «خلوا بالكم من التمثال الغلبان ده… ده أنا».

الكتاب به سبعة عشر عنواناً رئيسيا إضافة إلى العديد من العناوين الفرعية، كتاب به كثير من لحظات السعادة، والرومانسية، في علاقته بشافكي، وكيف وُلد الحب بينهما بعد لقائهما الأول في لندن، وكيف صارحها بحبه، وتجربة تأثيث بيت الزوجية ودوره في ذلك، ثم ممدوح الأب وتعلقه بابنته، وعلاقته بمن يساعدونهم في البيت، وعلاقته بأهله وأصدقائه، ومعجبيه، وعلاقته بنفسه، ثم علاقته الخاصة بزوجته وحبيبته، تلك العلاقة التي كان قوامها الحب والمودة، وفي نفس الوقت فيها حدود ومساحة تحترم الخصوصية التي يحتاج إليها كفنان ملتزم عليه أن يقرأ ويُعيد شحن خزينه بشكل دائم متجدد.

عندما تنتهي من صفحات الكتاب في جلسة واحدة ستتذكر المثل المصري «اللي خلف مماتش»، لكنك ستشعر بأن هذا المثل يحتاج لاستكماله، بأن مَنْ اختار زوجة وحبيبة صالحة مخلصة لم يمت، وأن مَنْ قدم أعمالاً هادفة محترمة مثل التي قدمها ممدوح عبد العليم لم، ولن يموت أبداً.

إعلان