إعلان

تنقية التّراث.. حذف أم تجاوز؟

د. محمد عبدالباسط عيد

تنقية التّراث.. حذف أم تجاوز؟

د. محمد عبد الباسط عيد
07:17 م الجمعة 29 مايو 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تتجدد الدعوى باستمرار – عقب كل سجال سياسيّ واجتماعيّ – إلى "تنقية التراث"، بمعنى مراجعة كل ما به من نصوص تحول بيننا وبين التحديث والتمدن، وغالبًا ما تكون الدعوى موجهة إلى حقل بعينه، هو التراث الفقهيّ والفتاوى القديمة التي ارتبطت بسياقات اجتماعية وتاريخية محددة، إضافة إلى بعض مدونات الحديث النبوي الشريف التي ضمّت مستويات مختلفة من النصوص بين الموضوع والضعيف والصحيح.

والحقّ أن لدينا تراثا كبيرًا وممتدًا، بل يمكن القول إنه لا توجد أمة من الأمم ولا ثقافة من الثقافات لها مثل تراثنا، ليس من حيث التنوع فحسب، وإنما من حيث الاستمرار أيضًا؛ فنحن نتحدث عن تراث يمتدّ لأكثر من ألف وأربعمائة عام، تعاقبت على إنتاجه عقول تنتمي إلى ثقافات وحضارات متنوعة، عربية وغير عربية.

وهذا تراث لا مثيل له، وهو إضافة حقيقية لأي أمة، ولا يكون التّراث إضافة بغير استيعابه أولًا، ثم تجاوزه والبناء فوقه ثانيًا، والمقصود بالتجاوز هنا أن نفهمه ونؤوّله، وكل تأويل هو وعي بالحاضر المعيش وأسئلته؛ فمطالبنا اليوم تختلف عن مطالب الجيل السابق، فضلًا عن الأجيال التي قضت قبل قرون طويلة.

تبدو المعضلة دائمًا أننا نعود إلى التّراث لنحتمي به من الحاضر، من أسئلته التي يطرحها علينا ونخشى مواجهتها، نعود إليه هربًا من المواجهة، نعيش زمنه التاريخيّ البعيد، ونتلذذ بالحياة داخل قوقعته التي نتوهم أنها تحمينا وتعفينا من مواجهة حقيقة وجودنا في العالم المعاصر، بل وأزمة وجودنا فيه.

وحين تعيش جماعة من الناس أو أمة من الأمم هذا الوضع أو هذا الشعور، فهذا يعني أنها موجودة بجسدها في الحاضر، ولكنها تعيش بعقلها وروحها ووجدانها في زمان آخر... وهنا يمكنك أن تتحدث عن خلل وجدانيّ وعقليّ، وغياب تامٍ للوجود الحيّ والفاعل، يمكنك أن تتحدث عن خيبة الوجود المعاصر.

تبدو دعوى "تنقية التراث" من أغرب الدعاوى، وهي –فوق استحالتها– تشكّل عدوانًا على التّراث نفسه، إذا قصد بها أن تقوم المجامع المختصة بحذف ما لا يرضينا من التّراث، من فتاوى وأحاديث دخيلة على النبي الكريم؛ فعملية الحذف ذاتها غير علمية، ولم يتوقف المختصون يومًا عن تحيين هذه النصوص، ومراجعة سياقاتها، ودرجات صحتها، وهذا عمل يعرفه أهله جيدًا.

تبدو لي فكرة "تنقية التراث" بمعنى "حذف" ما لا يرضينا منه مجرد محاولة منا للهروب إلى الأمام، وذلك بالبحث عن تراث جاهز، يُلبي احتياجات الحاضر، ويقطع الطريق على جماعات التطرف، وهذه فكرة خاطئة تمامًا؛ فالتراث –بطبيعته- منجز تاريخيٌّ، ولا يكون معاصرًا بعمليات التنقية و"التقييف"، فهذه مجرد حركة في المحلّ، نخدع بها أنفسنا، وهي رغم ظاهرها البرّاق إلا أنها في جوهرها استدعاء للماضي أيضًا، استدعاء لما نراه الآن مناسبًا، وهذا يعني أن نسمح للأجيال اللاحقة أن تقتطع من التراث ما تراه مناسبًا لها كذلك... وهذا كله يعني أننا أمة يرتهن حاضرها بماضيها، وعقولها بعقول آبائها، ولا ينبغي للماضي -مهما كان رائعًا– أن يطغى على الحاضر مهما كان بائسًا، فلا مفرّ أمام الحاضر من العمل والتجاوز والفهم وإنتاج المعرفة المناسبة، ثم يغدو الحاضر نفسه -بعد زمان يطول أو يقصر- تراثًا، تعيد الأجيال اللاحقة تأويله وتملكه وتجاوزه والبناء فوقه، هكذا تفهم الأمم الحية تراثها، وهكذا تُسهم في التّقدم المعرفيّ المذهل الذي يعرفه العالم الآن دون أن تفقد هويتها الإنسانية والحضارية.

وفي سياق الهرب إلى الأمام، تبدو دعوى "تنقية التّراث" محاولة لرفع الحرج عن المجتمع ومؤسساته، وإلصاقها بمؤسسة معيّنة، وهذا يعني أننا إزاء دعوى سجالية تتصل غالبًا بـ"تريندات" مواقع التواصل الاجتماعيّ؛ فالجميع يدرك -أو ينبغي له أن يدرك- أنّ التّراث لا يمكن تنقيته أو "تقييفه" كي يناسب هذه اللحظة أو تلك، هذا إذا افترضنا أننا –من حيث المبدأ- نتفق على هذا الذي يناسبنا، فما بالك ونحن نختلف كل الاختلاف حول هذا الذي يجب أن نتفق عليه بداية..!

وإذا مددنا الحبل على استقامته فيما يخص فكرة "التنقية" بمعنى الحذف، فسوف يهولك ما يجب حذفه من التراث، فالتربويون والمتدينون عمومًا لا يرضيهم صفحات مطولة في "ألف ليلة وليلة" ويطالبون بحذف ما يخالف تصوراتهم، وقد حدث ذلك من قبل، وقل الأمر نفسه عن شعر الغزل الفاحش والغزل بالمذكر، ولن نتحدث بالتأكيد حول روايات معاصرة عديدة أثارت من الجدل والصخب ما أثارت، وكان الحذف دائمٍا هو المطلب...!

ولعلّ البداية الحقيقة تكون بهذا التساؤل: لماذا تهرب مجتمعاتنا إلى التراث وتعيش زمنه على مستوى التصورات والمفاهيم؟ وبصيغة أخرى، لماذا نعجز عن الحياة بقيم الحاضر وشروط العالم المعاصر؟ لماذا يعيش العربي بجسده في الزمن الحالي، ويعيش بعقله في زمان مضى؟

الأمم لا تفعل ذلك إلا حين تتراجع في الحاضر وحين يغيب أمام ناظريها المستقبل، فتلجأ إلى الماضي تعويضًا عن خيبات الحاضر، ولكنها حين تنهض تعيد مقاربة تراثها وتنتج معرفتها المعاصرة التي تحمل بصماتها وملامح وجهها، تهضم ماضيها وتبني فوقه، يغدو جزءًا من بنيتها القوية، ورؤيتها لروحها الحيّة وعقلها الوثّاب...!

وإذن فالتراجع المعيش هو سبب الأزمة، وبالتاليّ فسوف يبقى التّراث أمام الجميع، ينتقي منه من شاء ما يراه مناسبًا، لا لكي ننهض أو نتقدم، وإنما؛ ليرفع التهمة عن كاهله ويلقي بها على كاهل غيره، سيغدو التّراث موضوعًا للسجال ومشجبًا نعلق عليه فشلنا؛ لأننا نهرب من مواجهة الحقيقة، سيظل التراث –مع استمرار التراجع الحضاري وغياب الرؤية– عنوان الأزمة واللعنة، وما هو كذلك، ولا يجب أن يكون كذلك على الإطلاق.

إعلان