إعلان

الديناميكيات القبلية والصراع في ليبيا

محمد جمعة

الديناميكيات القبلية والصراع في ليبيا

محمد جمعة
07:33 م الخميس 28 مايو 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تشير وقائع تاريخ ليبيا المعاصر إلى أن القبلية لعبت دورًا مهيمنًا في عهد الملكية (1969:1951). وفي ظل حكم القذافي لعبت دورًا مهمًا، وإن بدرجات متفاوتة بين مرحلة وأخرى. ومع انهيار الدولة المركزية عام 2011 برزت القبائل في المقدمة ولعبت أدوارًا كبرى على الصعيدين الأمني والسياسي.

صحيح أن الصراع هناك أصبح أكثر تعقيدًا في ظل تعدد القوي الخارجية المنخرطة فيه... وصحيح أيضًا أن القبائل لا تعمل كقوة موحدة هناك، لكن هذا لا ينفي أن الديناميكيات القبلية أكثر أهمية اليوم، وتأثيرها كبير جدًا بالنسبة لمستقبل الصراع، وللجيش الوطني الليبي، وقائده المشير خليفة حفتر.

وعلى عكس ما يعتقد البعض، القبلية في ليبيا ربما تكون ديناميكية استقرار على المدى البعيد. فضلاً عن أن ليبيا لم تفشل في أن تصبح دولة بسبب القبلية. بل بالأحرى، أضحت القبلية أقوى بسبب غياب الدولة، لا سيما ذلك الغياب المؤلم في فترة ما بعد القذافي. وتلعب المؤسسات القبلية دورًا مهمًا في توفير النظام أثناء فترة الفراغ السياسي الممتد. أي أنها في الحاصل الأخير تعد بديلاً وظيفيًا للشعب الليبي بسبب عدم فاعلية الدولة في الوقت الحالي.

ورغم التعددية التي يتسم بها المجتمع الليبي، حيث يضم إلى جوار القبائل العربية، أقليات من الأمازيغ، والطوارق، والتبو.. إلا أن تاريخ ليبيا يخلو من الانتفاضات "الإثنو/ قومية"، أو أعمال تمرد ذات نزعة انفصالية مقارنة ببلدان أخرى مجاورة، مثل مالي والنيجر. فالعنف السياسي الذي مارسته، في بعض الأحيان، تلك القبائل (سواء أثناء حكم القذافي أو بعد رحيله) ارتبط دائمًا بالتهميش السياسي والحرمان الاقتصادي... ومن ثم استمر تحت سقف المظلة الليبية الوطنية وليس خارجها.

من ناحية أخرى، يبدو حديث البعض عن "الصوملة"؛ لتوصيف ما يجري الآن في ليبيا، ينطوي على قدر كبير من المبالغة؛ لأن ليبيا تختلف كثيرًا عن الصومال التي يتم تصنيفها عادة كدولة فاشلة... في الصومال الدولة والمجتمع القبلي تم تدميرهما بفعل الحرب الأهلية... في ليبيا –ورغم تعقد الصراع- لم يصل الأمر بعد إلى هذا الحد. بل إن السمة البراجماتية تظهر بوضوح في كل انحيازات وسياسات وجهاء القبائل في ليبيا. والأكثر من ذلك أنه وفي "دولة ليبيا الريعية"، فإن مصلحة جميع القبائل في توزيع عائدات النفط بنظام وانتظام، ربما يكون لها تأثير في تهدئة الصراعات –ولو بعد حين- والعودة إلى الاستقرار من جديد.

من ناحية ثالثة، لم يكن للتنظيمات الجهادية في ليبيا –المراحل- شخصية قبلية.... وخلافا للمناطق القبلية على الحدود الباكستانية – الأفغانية، لم تتحول أي من المناطق القبلية في ليبيا إلى بوتقة صهر ضخمة للعناصر الجهادية المسلحة العابرة للقوميات، ولم تشهد هذه المناطق صعودًا لأي قوة (على غرار طالبان) كي تقلب الميزان السياسي في المناطق القبلية داخل ليبيا. بل يمكن القول بأن المناطق القبلية في ليبيا ليست مراكز نفوذ لتلك الجماعات يمكن استخدامها للصعود على مستوى دولي، والشاهد أن عدم توافق القبلية مع السلفية الجهادية أسهم بفاعلية في عرقلة تقدم داعش في ليبيا، تحديدًا في الجنوب.

في وقت مبكر من عام 2012، تعهد أفراد قبيلة العواقير (أكبر تجمع قبلي في منطقة بنغازي الكبرى) بتطهير المدينة من العناصر الراديكالية المتطرفة، والاستيلاء عليها بالقوة. وهكذا، عندما أطلق حفتر حملته "عملية الكرامة"؛ لتخليص بنغازي من القوي المتطرفة في مايو 2014، سارعت القبائل إلى التجمع. وشكلت هذه القوات القبلية عنصرًا حاسمًا في الآلة العسكرية لحفتر، فاخترقت الأحياء وطاردت قوى التطرف حتى تم تحرير بنغازي.

بعد ذلك منح استعادة التحالف بين قبيلتي الزنتان والورفلة "عملية الكرامة" قوة دفع إضافية في غرب ليبيا، وذلك بالنظر إلى أن كلتا القبيلتين على خصومة مع معقل قوة المعسكر الآخر، أي مدينة مصراتة.

ومن خلال القبائل، سيطر الجيش على موانئ الهلال النفطي ذات الأهمية الاستراتيجية في سبتمبر 2016، وتقع مراكز التصدير هذه في مناطق تهيمن عليها قبيلة المغاربة.

في الجنوب الليبي، ورغم أن قبضة الجيش الوطني هناك لا تزال ضعيفة إلى حد ما، فإن نجاح حفتر في مغازلة قبيلتي الزاوية وأولاد سليمان الكبيرتين (وإن كان ذلك على حساب فقدان دعم خصومهما من التبو)، مكنه من أن يضم مساحات كبيرة من الجنوب لسيطرته.

في غرب ليبيا (أقل قبلية بكثير من الشرق والجنوب)، نجح حفتر في جلب بعض البلدات والمناطق إلى جانبه، ولا سيما تلك التي لها وجود قبلي قوي. وهذا يشمل ترهونة، التي تقع على بعد 65 كم جنوب شرق طرابلس، حيث تجتمع أكثر من 60 قبيلة تحت مظلة قبائل ترهونة. لقد أثبتت هذه العلاقة أهميتها؛ لتحقيق نجاحات حفتر المبكرة في حملته في طرابلس، حيث سهلت ترهونة اختراق الجيش الوطني الليبي للمنطقة الواقعة جنوب شرق العاصمة. ومع وجود سكان المناطق المجاورة في عين زارة ووادي ربيع وقصر بن غشير، ويمثلون الامتدادات القبلية لترهونة، تمكن الجيش الوطني الليبي من التقدم أكثر.

وفي الوقت الذي ربما حققت فيه حكومة الوفاق الوطني، بدعم تركي، سلسلة من الانتصارات العسكرية في أبريل 2020، واستولت على عدة بلدات صغيرة في غرب ليبيا، فإن فرض سلطتها على هذه المناطق قد يكون أمرًا صعبًا. إذ من غير المحتمل أن تسمح مناطق مثل: "رقدالين، وسمران والجميل"، لقوات حكومة السراج، السيطرة عليها بسهولة. والأمر سيكون أصعب عندما يتعلق بالسيطرة وإخضاع قبائل ترهونة؛ لأن حكومة السراج –وفقًا لهذه القبائل- هي هيئة أجنبية، تسيطر عليها الميليشيات المدعومة من تركيا. وبالتالي، من غير المرجح أن تفرض هذه الحكومة نفسها على الإطلاق على كل غرب ليبيا، ناهيك عن بقية البلاد.

اليوم جزء من مشكلة جماعة السراج مع قبائل ليبيا أنها باتت مغمورة بقوى حضرية مدفوعة أيديولوجيًا إلى حد كبير، مثل تلك الشخصيات من طرابلس ومصراتة.. كما أن اعتماد "حكومة الوفاق الوطني" على تركيا للحصول على دعم عسكري، واستخدام المرتزقة السوريين الذين جاءوا على ظهور السفن التركية في قتالها ضد الجيش الوطني الليبي، أساء إلى مصداقيتها أكثر. فالقبائل بشكل خاص يقدرون نسبهم العربي، في الوقت الذي تستحضر فيه تركيا بالنسبة لهم ذكريات المقاومة ضد الغزاة العثمانيين. ولهذا كان التدخل التركي بهذا الشكل السافر بمثابة مبرر للإغلاق الجماعي للبنية التحتية النفطية في البلاد الذي نفذته القبائل المتحالفة مع الجيش الوطني الليبي في يناير 2020، الأمر الذي مكّن الجيش من قطع تدفق عائدات حكومة السراج، بوصف هذا القطع تعبيرًا عن إرادة الناس.

باختصار، لقد أثبتت القبائل أنها لا تزال تمثل الرقم الأصعب في البلاد، ولا شك أن مهارة الجيش وقيادته في إشراك القبائل، لعبت دورًا حاسمًا في تمكين الجيش من التمدد من كونه السلطة المهيمنة في بنغازي، إلى كونه مركز القوة الرئيسي عبر مساحات شاسعة من ليبيا.

إننا بأشد الحاجة لفهم الديناميكيات القبلية العاملة في ليبيا، وتقدير كيفية تأثيرها سواء على المستقبل الليبي، أو فيما يخص جهود مكافحة الإرهاب القادم من حدود مصر الغربية.

إعلان