إعلان

أن تعرف أكثر فتتألم .. "كورونا" وجدل مربعات الحياة الأولى

د.هشام عطية عبد المقصود

أن تعرف أكثر فتتألم .. "كورونا" وجدل مربعات الحياة الأولى

د. هشام عطية عبد المقصود
07:00 م الجمعة 03 أبريل 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

"عدم العلم مليح، عدم العلم عيون تنعس فى الليل، ضحكه من القلب للقلب صحيح". طبعا لم يكن عبد الرحمن الأبنودى وهو يكتب تلك الكلمات فى ديوانه "جوابات حراجى القط" يقصد بعدم العلم هنا فكرة ومفهوم المعرفة والمعارف بإطلاقهما كمنجز بشري عام تأسست عليه دعائم التقدم فى مختلف مناحى الحياة، ولكنه كان يجسد حالة خاصة من تعامل الفرد مع مفاجآت الحياة وخاصة ما يزعج منها، حيث ينتصب الخوف مما عرف وخشى شبحا يخايله فيجعله قلقا فزعا لايستريح بعدها، وربما بعض ذلك هو ما يحدث لجمهور الكون الواسع نتيجة تلقفهم المستمر لما تفرزه فى تواتر وتسارع ماكينة إنتاج الأخبار العالمية بشأن تداعيات فيروس كورونا على امتداد خريطة الجغرافيا البشرية.
ولا يرتبط هنا فكرة "عدم العلم المليح" هذا بالمعنى المطلق للتجربة الإنسانية العامة فى صعودها ولا بمسيرة المجتمعات البشرية فى منجزها، وبحيث تطال بالسلب فكرة العلم والمعرفة اللذين هما من مقومات وضرورات الحياة، وبعض من سعي كل أناس فى زمانهم نحو التحقق والرخاء، وذلك فى السياق ذاته لمنظومة الأخذ بالأسباب التى جبل الله عليها الفطرة البشرية وأمرهم بها، والتى يعيش الخلق تقدما فى الحياة فى ظلها، لكنه يظل أن إحساس الفرد هكذا إزاء ما يخشى ويتخوف وما لا يعرف كيف أن يواجهه ماثلا، فهى جزء من فطرته إزاء كل "ما لم يحط به خُبرا"، وهو أثر وخيط يمتد منذ حيرة الإنسان فى العصور القديمة أمام الظواهر الطبيعية فى الكون خشية ورهبة، حتى محاولته أن يسترضيها ويتقي شرها تقربا وقربانا كما يدلنا تاريخ الشعوب والحضارات القديمة، ويظل ممتدا أثر من ذلك الخوف فى نفس الإنسان إزاء ما يباغته ويقلق صيرورة اعتياداته مهما طال الزمان واتسع نطاق القرون ولا زالت أمام مستجدات الطبيعة والحياة التى لا تنفك تجدد بقائها وقوتها وتحدياتها أمام كل سعي الإنسان وتقدمه.
الفارق ربما هو فى سرعة المعرفة وتواتر أخبارها الآن قياسا بقديم الزمان، وتحدثنا كتب المؤرخين عن ظهور أوبئة كونية فى عصور وقرون سبقت، وكانت المعرفة بها وبحدوثها تتم من واقع ترصد حالاتها عبر المعاينة والانتشار محليا، لكن الميديا الآن قربت فأسرعت، وأتاحت فتدانت الأخبار، وصورت فشخصت تفصيلا فوقع تأثيرها على الأفراد، وهذا من طباع الزمان وضروراته التى لا مناص منها.
وتبدو الحيرة الكونية والتفكير المستغرب والتى تصيب الجميع حاليا إزاء بطء خطوات اكتشاف مصل للكورونا أو تواجد تعامل سريع يحد من انتشاره وخطورته ماثلة، ويرجع ذلك جزئيا إلى دور الميديا الكونية فى اختزال فكرة ودور العلم وتقديمه للجمهور العام المعاصر بأنه فرغ من حل كل شئ، وبحيث تبدو لهم عدم قدرة أكثر المنظومات الصحية فى أكثر دول العالم تقدما على تحاشي خطورة الفيروس كأنها أعجوبة ومعجزة وسر يصعب على فهم البعض، بينما الأمر ربما هو أوضح من ذلك كثيرا، فتأمل بسيط يوضح أن الكثير من الأمراض التى تفتك بالبشر وتتصدر أسباب وفاتهم عبر عقود لم يتم علاجها كلية بعد ولا اكتشاف حلول طبية جذرية ونهائية لها رغم كل محاولات السعي.
سيقول البعض أن السبب فى الفزع أن مشكلة الكورونا تبدو كحالة اجتياح متزامن لكل بقاع الكون فى توقيت واحد، لكن هكذا حال الأوبئة الكونية التى عرفتها البشرية عبر التاريخ وانتقلت عبر السفر والترحال والسفن، وهنا يظهر تماما مغزى مهم فى فكرة "عدم العلم مليح"، بمعنى أن نتحلى بالأمل والرجاء والعمل والأخذ بالأسباب ونفوض الأمور لله، حتى إذا حان أوان الإنشغال بما يزعج ملحا فلا مناص من الأمر، لكن القلق والفزع الجم دوما هو مد فى عمر الترقب والألم وجهل بنعمة ورحمة الله التى هى دوما أقرب مما يتصور البعض.
التحدي والاستجابة هو قانون البقاء للكائنات على كوكبنا، على مستوى كل فرد وكل مجتمع، فإذا أصاب خلل القلق والفزع البنية العصبية للفرد وكذلك المجتمع فسدت استجابته وتفاعله مع المجريات، وهكذا المجتمعات تحتاج إلى روافع الأمل، ولا عجب فى ذلك أن يؤكد العلماء الثقاة أن الحالة المعنوية هى عنصر مهم وضروري لرفع كفاءة واستجابة ومقاومة الإنسان لكل ما يؤرقه ويضر به بما فيها الأوبئة وهكذا أيضا يجدر بالمجتمعات.
ولعل من أفسد القياسات والقراءات التحليلية لتلك الأزمات التى أصابت العالم من جراء فيروس كورونا هو استخدامها للقول بإطلاق مهين ساخر: كم أن البشر جهلاء ضعفاء وأن التقدم والمعرفة لا قيمة لهما ولا يصمدان فى مواجهة نوازل كبرى، هذا جزء من الرؤى العابثة ونوع من إهدار جهود البشرية وطريقتها فى الأخذ بالأسباب التى أمرنا بها الله تعالى لتيسير الحياة وتحسينها، علينا أن نقول أن البشرية عبرت بكوارث وأزمات أكبر هولا من ذلك، ولا ننسى أن حربا عالمية ثانية واحدة فى القرن الماضى خلفت ملايين القتلى والمصابين تقدره الإحصاءات بنسبة تزيد عن أكثر من 2% من حجم سكان العالم وقتها– هل تتخيل ذلك ؟- فضلا عن تدمير ما يقرب من 70% من البنية الاقتصادية فى الكون، وهو أثر مباشر لتدمير الإنسان بإرادته لنفسه وممن حوله، دون أن يكون ذلك مرضا أو فيروسا وبائيا، وهو أفدح وأكبر من كل ما ضاع من جراء كل الأوبئة التى اجتاحت البشرية منذ خلقها الله، إنه فقط تأثير اللحظة المباغتة وفزع المعرفة المؤرقة، تلك اللحظة التى هى فى عرف وحساب عمر الزمان والأرض لو تعلمون أقل من ثانية أو بعضا من فيمتو.

إعلان