إعلان

 الأيام التى يتداولها البشر .. قبس الطيبات من شهر الفيوضات

د.هشام عطية عبد المقصود

الأيام التى يتداولها البشر .. قبس الطيبات من شهر الفيوضات

د. هشام عطية عبد المقصود
07:28 م الجمعة 17 أبريل 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تسير وتيرة الأيام على عهد الزمان بها، ثم إذا هى تقف متريثة مع بشائر قدوم شهر رمضان لتصبح حاملة لألفة وعطر داخلي ينساب فلا يبارح، شيء دفين ثمين مما عرفنا وألفنا وأحببنا وعشنا، أريج يحمل سيرة الزمان والأمكنة مكثفة فى مشاهد متتابعة، وكما يمكن أن تستحضره كلمات الشاعر أحمد فتحى لتنطبق على سياق حب تلك الأيام وكما غنتها السيدة أم كلثوم فى سياق بعيد لكنها تحضر هنا لتكون على مقتضى حال رمضان شهرا وصوما وطقوسا وعادات: "ذكريات عبر أفق خيالى .. بارقا يلمع فى جنح الليالى .. إنها قصة حبى".

تعيش أيام رمضان ووقائع حكاياته باقية فواحة كشجرة زرعتها فى طفولتك ورعيتها سقيا ونماء ففاحت روائحها ولا تزال، ثم تفاجئك تملأ أرجاء المكان حولك مع قدومه، ومهما تغيرت المسافات وتبدلت أشكال الأمكنة وبعدت عما عرفت، هذه حقا معجزة تثبت داخلك يقينا لذكريات رمضان، وحيث لا تقف معها متحيرا بحثا عن تفسير عقلي بل فقط تعيش فيوضاتها سخية وتحمد الله عليها، هكذا تنمو الذاكرة الرمضانية فتمضى معنا فى رحلة العمر وعبر تبدل الأيام ثم إنها لا تشيخ أبدا، حتى أنه لا ينفك الكبار والماضين فى العمر أن يقولوا لها "لو عدت لى رد الزمان إلي سالف بهجتى".

رمضان الذى يؤرخ له صوت عبد المطلب فى سفر كتاب الأيام وديوان حكاياته غناء فيبدو صوته شجيا يأتى من سحيق الزمان، يحمل أصوات ووجوه تجمع المفارقين والأحبة على طعام الإفطار، كأننا لم نغادر تلك الأيام ولم تبارحنا مخيلتها، مددا إنسانيا جميلا، يحبه الصغار حبا جما وينتظرونه شهورا عددا، إرتباطا بما حملته تجربة أيامه ولياليه، لكنه طبع الحياة وتبدل دورة مرورها، حيث يجيء رمضان الآن محملا بكل تداعيات وباء فيروس كورونا تدوى فى الكون كصفارات الإنذار، فتمنع عنك انقطاعات التأمل والإستعدادات الطيبة، لتكون الحياة مخالفة لما عهدنا وعلمنا وعشنا، فإذا هى الأيام حقا ليست "كما نعرفها"، فنصر على الروائح والذكريات مستعيدين بقايا أثرها، يستعيد الحضور الجميل ويصنع الأمل والرجاء ليكونا معنا دعاءا ودليلا فى شهر رمضان.

مظاهر لاتنفك تترى أوراقها فى الذاكرة من الحياة الرمضانية، فهى فاصل له خصوصيته داخل مسار الأيام ودورانها، حالة من الزمن الخاص تتريث قليلا ثم تمضى مسرعة ليكون آخره "عيد" ربما ليخفف عنا فضاء ذهابه، وبينما تنفرد بنا الآن السوشيال ميديا من خلال مكاننا بثا فوريا وحصريا، وقد كانت ذكريات الراديو الجميلة والتليفزيون مساحة مقتطعة "طبيعية" وأنسا طيبا من زمن يوم الصيام، مسلسل كبير يحتشد له عموم المشاهدين فى رمضان، مقاطع من حياة البشر العادية ومشاهدات من معايشات وأمل ومكابدات الطبقة المتوسطة، دراما بسيطة ومألوفة كحكايات تسيير الحياة كل يوم لدى الناس العاديين بقدر من دفء التسامح والرحمة جيرة وأصدقاء، ثم قبس من حديث دينى فى نبرة واثقة محتشدة بالعلم أصلا وفهما، أحاديث تجلس لها متعلما ومتأدبا، ثم كذاكرة البهجة والرجاء معا يترقرق صوت المنشاوى يؤذن لصلاة المغرب دافئا طيبا ودودا .

يذكر المؤرخ والرحالة الأيرلندى ريتشارد بيرتون بعض طبائع شهر رمضان لدى المصريين خلال رحلته عام 1853، قدمها مترجمة فى سلسلة الألف كتاب د. عبد الرحمن عبد الله الشيخ، يقول بيرتون متأملا مندهشا أنه رغم ظروف الحر القائظ فإن الناس فى مصر على اختلاف مدارجهم الاجتماعية ووظائفهم وأحوالهم تلتزم بشعائر الشهر الكريم "بإخلاص شديد"، ويصف أن أكثر ما أبهره هو أثر الوقار الجم الذى يمنحه هذا الشهر على طباع المصريين، وأنه ومع لحظة قدوم آذان المغرب تكون القاهرة كأنها تستفيق من سكون ونوم، ويرصد إطلالات عموم الناس من النوافذ والمشربيات ترقبا لانطلاق وسماع دوى مدفع الإفطار، ليعقبه صوت المؤذن عاليا عذبا يدعو للصلاة، ثم يلي ذلك انطلاق المدفع الثانى "فتعم الفرحة أرجاء القاهرة".

هامش:

جاء الإنسان الى هذا الكون خاليا متجردا سوى مما يستر عورته، ثم مضى ليصنع طريقا وحياة صرنا نعرفها الآن .. استهل دورة حياته بدائيا يبحث بأسنانه ويديه المجردتين عن الطعام وهو ينازع صعوبات الطبيعة، ثم قطع شوطا "تحضرا" فاخترع أدوات المائدة، وصار يمضى طوال حياته حاملا طبقا وكوبا يراهما دوما فارغين – وقد اختلفت أحجامهما وتنوعت الطموحات فيما يحشده بهما – غير ملتفت سوى لوسائل يملأ بها الطبق والكوب اللذين صاروا أطباقا وقوارير واشتهاءات وحيازات أنسته كثيرا حكمة البدء والمنتهى .. ليكون هذا ربما وباختصار موجز رحلة البشر وتاريخ سيرهم وتدافعهم فى مدارات الكون والحياة، وهو مما يمكن أن يدخل لعمرك تحت عنوان: بعض تجليات قدوم شهر الصيام على الخاصة والعوام لكاتبه هشام.

إعلان