إعلان

فتاة العزل

عبدالله حسن

فتاة العزل

عبدالله حسن
09:00 م الثلاثاء 17 مارس 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

كنت على متن طائرة مسافرة لدولة الإمارات الشقيقة، منذ بضع سنوات؛ لإحياء حفلة شعرية بأبو ظبي .. ولا أخفيكم سرا لست من الشخصيات التي ترهب الطيران؛ فأنا أجده فرصة جيدة للتحليق ومشاهدة العالم من مسافة لا بأس بها .. على الأقل وأنا في الجو سيهدأ هاتفي قليلا وسيكف عن استقبال الرسائل والأدعية التي إذا تجاهلتها، ولم ترسلها لعشرة اشخاص ستُسحق تحت أقدام فيلة أبرهة الحبشي، وستذوق عذابات قوم لوط، وليس بعيدا أن تستقبل "نيزك" في منزلك.

كعادتي أيضا أجد صعوبات كثيرة في النوم داخل المواصلات بشكل عام، ولأن المقعد كان في الدرجة الاقتصادية كان من المستحيل أيضا الاحتفاظ "ببرستيجك" أثناء النوم .. فكثيرا ما سقطت رؤوس على كتفي أثناء السفر، واستمعت إلى أصوات تنفس قد تفوق صوت محركات الطائرة في بعض الأحيان.

حتى لا أطيل عليك، سيدي القارئ، وقبل الإقلاع بقليل جلست بجانبي فتاة لا يتجاوز عمرها التاسعة عشرة آن ذاك .. ترتدي عباءة سمراء خليجية الصنع والمظهر، ويفوح منها رائحة العود، ولولا ملامحها المصرية لتأكدت تماما أنها إماراتية .. جلست، وأخرجت هاتفها وتحدثت فيه ودون قصد سمعتها تتحدث إلى والدها "نعم أنا في الطيارة .. إلى اللقاء" وبدا عليها الكثير من السعادة .. وما إن صعدت الطائرة تشق غبار الأرض، وترتقي إلى السماء حتى بادرتها بسؤالي الأول ونحن خارج حدود الأرض بعد ملاحظة أنها لا تأبه كثيرا أثناء عرض الفيلم الخاص بالتحذيرات ولحظات الطوارئ وقناع الأكسجين ومخارج الطائرة في حالة حدوث مصيبة لا قدّر الله .. "إنتي بتسافري كتير؟" وهذا تقريبا أول وآخر سؤال بدر مني .. فلم تهدأ الفتاة، ولم تكف عن الكلام إلا في مطار أبو ظبي!

كانت تتحدث بعفوية تامة .. حدثتني عن أهلها المقيمين خارج الديار من قبل ولادتها.. وكيف أنها قضت معظم طفولتها خارج مصر، وجاءت إلى مصر فقط من أجل الدراسة الجامعية.. وكيف أنها لا تستمتع بالعيشة في مصر، فهي تعيش وحيدة.. وعلاقتها بأهلها لا تتعدى دقائق على الهاتف يوميا.. وجدتها حقيقة محطمة بلا جذور.. وكم هي سعيدة الآن لأنها سترى أهلها وأصدقاء طفولتها في الإمارات.. بل غالت في ذلك وأخرجت بعض الهدايا من حقيبة يدها وأخذت رأيي في اللفة وطريقة التقديم.

استمعت إليها على مدار أربع ساعات.. كانت تحمل الكثير من المشاعر والكلام وكأنها وجدت أخيرا كائنا حيا يستمع إليها.. فأنا لعبت دور الشخص المثالي .. الذي طالما حلمنا بلقائه .. شخص لا تعرفه. تخبره بكل ما تريد وأنت تعلم أن فرص لقائه مرة أخرى شبه مستحيلة .. مستمع جيد .. وللأمانة لم أقاطعها أبدا .. فكلنا نحتاج إلى هذه الجرعة من الكلام .. وما إن هبطت الطائرة في مطار أبو ظبي، حتى اتجهت بسرعة إلى باب الطائرة، بعد أن شكرتني وهي لا تعرف اسمي إلى الآن، وأظن أن هذا ليس بالشيء المهم بالنسبة لها.

لا أعرف لماذا تذكرت هذا الموقف أثناء قراءتي قرارات غلق المطارات ومنع السفر، وتخيلت نفسي مكان هذه الفتاة .. فهذا النوع من العزل هو أصعب الأنواع .. أن تكون وحيدا معزولا قبل أن تبعدك المسافات وتعزلك القرارات .. نسأل الله ان يكشف هذه الغمّة قريبا ويجمع شمل كل الأهل والأحبة.

إعلان