إعلان

من يعبر الحواجز يصبح كبيرًا (3) "الشروط الموضوعية"

د. أحمد عمر

من يعبر الحواجز يصبح كبيرًا (3) "الشروط الموضوعية"

د. أحمد عبدالعال عمر
07:01 م الأحد 20 ديسمبر 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إن المفكر لا يصبح كبيرًا دون اشتباك أفكاره مع الواقع الذي يعيشه، وتصديه لحل مشكلاته وتحليل أزماته.

وهذا الأمر يسبقه عدة شروط ذاتية يجب أن تتوافر في شخصية المفكر تؤهله للقيام بهذا الدور، أهمها:

أن يكون موهوبًا في التفكير، ومثقفًا ثقافة تكوينية قادرة على جعل عقله مستقلًا وأفكاره أصيلة.

أن يكون تفكيره المستقل استراتيجيًا ذا رؤية شاملة في إطار دعوة أو رسالة.

وفي النهاية يجب أن يمتلك الشجاعة الروحية والقوة النفسية والقدرة المعنوية على قول الحقيقة.

تلك هي خلاصة المقالين السابقين اللذين عرضت فيهما لرؤية الراحل الدكتور غالي شكري للمقومات الأساسية التي تجعل المفكر كبيرًا، والتي قدمها في مقال له بعنوان "من يعبر الحواجز يصبح كبيرًا"، نشرته جريدة الشرق الأوسط في بداية تسعينات القرن الماضي.

وفي هذا المقال أعرض، انطلاقًا من رؤية الدكتور غالي شكري، الشروط الموضوعية التي تجعل المفكر كبيرًا، وهي الشروط التي تتعلق بعصر المفكر وسياقه ومجتمعه، وأهمها: التوقيت، المنبر، الجمهور المُخاطب، وتوفر الحراك الاجتماعي– الثقافي.

الشرط الأول: التوقيت

وهو شرط في قمة الأهمية؛ لأن هناك أوقاتا تسودها الثقافة الاستهلاكية الطاغية، بحيث لو أن كتابًا جادًا عظيمًا ظهر في خضم انتشار كتب الخرافات والشعوذة والفضائح السياسية والجنسية المنتشرة، فإن هذا الكتاب قد يُسدل عليه ستار الصمت، ولا يدري به أحد، وسوف تطرده من السوق العملة الرديئة السائدة، رغم أن هذا الكتاب مؤهل للاشتباك مع الواقع.

الشرط الثاني: المنبر

وهذا الشرط لا يقل أهمية عن شرط التوقيت؛ لأن هناك أعمالا جادة ورصينة ضلت الطريق إلى المنابر الصحيحة من دور نشر وصحف، ومراكز أبحاث، ومؤسسات عامة.

ولأن المنبر الأكاديمي في أحيان كثيرة يعزل الجمهور العام عن تلقي رسالة المفكر، وأحيانًا أخرى يحجب المنبر التافه عن العيون عملا جادًا لاختلاطه بغيره من الأعمال الكثيرة.

كما أن هناك مفكرين، المستقلين منهم على وجه الخصوص، تبتعد عنهم المنابر لجديتهم، أو لأنهم ليسوا من "الشلة" أو الحزب أو المجموعة الثقافية الرسمية؛ ولهذا يفقد فكرهم توهجه بغياب المنبر الصحيح لعرضه، ويكون الصمت المر هو خيارهم الأخير.

الشرط الثالث: الجمهور

هناك كتاب لا يجيدون تحديد جمهورهم، سواء في نوعية القضية المطروحة أو لغتها وأسلوب عرضها، ومن ثم تذهب الرسالة إلى العنوان الخاطئ، سواء عندما يتحدث المفكر إلى الجمهور العام بلغة النخبة أو العكس، أو عندما يظن المفكر بنفسه المقدرة على مخاطبة كل أحد، وكل مشاهد وكل مستمع، وهو الافتراض الذي ينتهي عمليا بتغييب المتلقين جميعًا.

ويدخل في هذا الشرط ضرورة توفر حركة نقدية جادة ومنصفه تقوم بدورها في نقد وعرض الفكر، حتى لا تُترك بعض الأعمال الجادة الكبيرة فريسة التجاهل أو الأهمال.

الشرط الرابع: توفر حراك اجتماعي- ثقافي نشط

أي وجود حراك اجتماعي وثقافي يحرك الفكر الراكد في المجتمع، ويظهر في كثرة الفعاليات الثقافية والفكرية التي تمارسها الجامعات والأحزاب والهيئات العامة والمؤسسات الثقافية.

وعدم توفر تلك الشروط الموضوعية الخاصة بعصر المفكر وسياقه ومجتمعه، إلى جانب عدم توفر الشروط الذاتية التي تخص المفكر ذاته وتتعلق بموهبته وعقله المستقل، ورؤيته الاستراتيجية، وشجاعته في قول الحقيقة، يمنع ظهور النصوص الفكرية الأصيلة والرصينة، ويمنع قيام معارك فكرية خصبة حولها، ويمنع في النهاية ولادة المفكرين الكبار.

وهذا يفسر لنا لماذا منذ أكثر من أربعة عقود لم يعرف المشهد الفكري والثقافي المصري معارك فكرية كبرى، ولماذا غاب الفكر عن حياتنا وواقعنا ومشكلاتنا، ولماذ غاب عن فضائنا الأكاديمي والثقافي المفكرون الكبار، فهل من سبيل لتجاوز هذا الوضع المتردي؟ وهل من سبيل لميلاد مفكرين مصريين كبار من رحم الأزمات والتحديات والمخاطر الراهنة، يكونون قادرين على تجاوز جميع الحواجز والعواقب التي توضع في طريقهم، ليصبحوا مفكرين كبارًا في القامة والقيمة، ويصبحوا إضافة لمجتمعهم ووطنهم؟!

إعلان