إعلان

 التعليم الجامعي في مصر.. قراءات ومقترحات

د. هشام عطية عبدالمقصود

التعليم الجامعي في مصر.. قراءات ومقترحات

د. هشام عطية عبد المقصود
07:17 م الجمعة 20 نوفمبر 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

نشأ التعليم النظامي في العالم ارتباطا باحتياجات المجتمعات ورغبتها في إحداث تحول نوعي في مصائرها اقتصادًا ودورًا وحضورًا مؤثرًا، وهو الهدف الذي لا يجدر أبدًا أن يغيب عن أفق سياسات التعليم في مختلف المجتمعات؛ ليحضر دوما -ويجدر به ذلك – ليتلافى الاستغراق في تفاصيل "مزمنة" تضطر إليها ثم تعتاد عليها تحت ضغوط دورية بشأن كيفية استيعاب كل أعداد وتدفقات خريجي المدارس سنويا؛ تلافيا لأن يكون ذلك هو الانشغال الأكبر الذي أحيانًا ما تغيب معه رؤية الهدف القديم وتجدداته في عالم ينمو باقتصاديات المعرفة.

إن نمو ظاهرة التعليم المؤسسي ارتبط ببلورة واستقرار مفهوم الدولة القومية والعصرية التي نشأت في ظلها ونمت مؤسسات التعليم النظامي، لتعبر عن رغبة في تخريج وتدريب كوادر ترتبط بمنظومات العمل واحتياجات التطوير، حتى ليمكن القول بقدر كبير من اليقين أن تخطيط هذا النمو المؤسسي لا ينفك أبدًا عن بروز قوة الدول ونمو اقتصاداتها وقوتها على كافة الأصعدة، وبحيث نربط شرطيًا مستقبل الحضور الفاعل للدول في الكون بسمات وخصائص التعليم في مجتمعاتها وما يضيفه لها من مصادر قوة وتطور وحداثة.

أحيانا تغيب هذه البديهية في خضم النمو الضخم لعدد المتعلمين والانشغال الكبير باستيعابهم في مؤسسات التعليم، تلك هي التفاصيل التي يمكن أن تبعد سياسات التعليم عن رؤية الأفق والهدف اللذين نشأ من أجلها التعليم أساسًا.

وقد عرفت مصر تأسيسًا جديدًا مختلفًا لمنظومة التعليم النظامي بعدما خرجت البعثات الأولى في عصر محمد إلى دول العالم ذات المنجز الصناعي والمعرفي الحديث، وبعد أن نبتت شرارة الاصطدام والدهشة الحضارية في عقول نابهي الوطن بعد التقاء مع علماء الحملة الفرنسية في قدومها الاستعماري حينئذ، والذي تضمن أيضًا علماء في مختلف التخصصات، ولعل تتبع آثار ما سطره الجبرتي من خبرات ومعارف تتعلق بالجانب العلمي وملاحظاته ومشاهداته التي دونها موجزة حينا ومفصلة، حينا توضح تلك الدهشة وذلك البون بعد أن عاش المصريون معزولين بجدار أنشأه العثمانيون والمماليك تفصلهم عن تجددات التطور والحداثة في العالم.

منح ذلك العقل المصري نافذة على الكون تتوثب للمعرفة، احتاجت سنوات قلائل حتى قيض لها التاريخ من يفكر في نشأة المدارس ويرسل البعثات؛ لتصنع احتكاكًا وتقاربًا ورؤية تتمكن من خلال المعايشة من إنهاء غربة المعرفة وإنهاء زمن النظر لمنجزات العلوم والكيمياء وتفاعلاتها بأنها سحر أو فعل جان كما كان يرى بعض الجمهور في التجارب الكيميائية التي كان يبهرهم بها علماء الحملة في الميادين.

وتشكلت البعثة المصرية إلى أوروبا من دارسين في مجالات الهندسة والزراعة والري والتسليح والكيمياء والإدارة والطب والقانون والطباعة، تعبر عن رؤية للهدف وعن انشغال بالتطور والدور والمكانة، وتمأسس ذلك بإنشاء ديوان المدارس عام 1837 (نظارة المعارف)، يصف البعض هذا التحول بأنه مثل منظومة إنتاجية مؤسسية ترتبط بهدف تخريج احتياجات البلاد من الكوادر المتخصصة.

تطور الأمر بتأسيس الجامعة المصرية الحكومية الأولى عام 1925 بعد أن بدأت كجامعة أهلية عام 1908؛ لتعبر عن دخول الدولة مجال التعليم الجامعي الذي نمت ظاهرته باضطراد ارتباطًا بنمو أعداد المتعلمين والزيادة السكانية المتوالية المهولة، وهكذا تواجدت الجامعات المصرية ونمت عددًا، وانشغلت السياسات التعليمية في عقود تالية ورويدًا بالقضية التي ربما أخذت في خضمها وتفاصيلها الأهداف الأكبر للتعليم، وإلى مثلت مظهرًا عبر العقود، متمثلة في إيجاد مكان لكل هؤلاء المتدفقين سنويًا من المدارس بحثًا عن مقعد في الجامعات، فنشأت الكليات موحدة الأسماء عبر الجامعات وتطابقت التخصصات داخلها أو كادت.

وهكذا وبعد أن أوشك أن يمر قرن من الزمان على نشأة الجامعة المصرية الأولى، أجدني أسأل أليس من الواجب أن تتأسس دراسة تقول لنا ماذا أضاف التعليم الجامعي للدولة المصرية عبر 100 عام، كيف بدأت السياسات التعليمية وأهدافها وكيف سارت وإلى أين تمضي؟. ربما نحتاج حاليًا أن نؤسس على هذا الكثير من عمليات التخطيط وإعادة الهيكلة فيما أظن، نحن في احتياج دقيق؛ لأن نحصل على مؤشرات تقول لنا عن طبيعة القيمة المضافة للتعليم الجامعي المعاصر وسياساته في مجال التحديث والتطوير ودعم أدوار ومكانة الدولة المصرية سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا وتكنولوجيًا في محيطها وإقليمها وعبر العالم وبعد مرور قرنين، كيف بدأت وسارت وما حالها الآن وكيف نتصورها في المستقبل؟ ما حجم المنجز المعرفي الحضاري المرتبط بمؤسسات التعليم العالي حاليًا ومدى تناسب هذه المخرجات مع حجم الإنفاق ومؤشرات قياس المخرجات مع الأهداف؟، وهل نحتاج لتأسيس أهداف جديدة؟ .

يمنح حضور السؤال وجاهة الرغبة في تنشيط تدفق حركة مطلوبة وضرورية في اتجاه بناء مؤسسات تخصص معرفي وعلمي تعمل على وتستوعب مجالات معرفية معاصرة متطورة ومتفاعلة مع عمليات نقل المجتمعات المعاصرة نحو حيز التواجد المؤثر في اقتصاديات المعرفة عصب النشاط الاقتصادي المعاصر، إذ لا يمكن أن يكون مدخل التطابق النسبي في التخصصات عبر مختلف الجامعات في مختلف أنحاء الجغرافيا المصرية دليلًا في طريق كهذا، ولا يصح أن تتواجد الجامعات كنواسخ أو تكاد تحت ضغط تدفقات الطلاب ونمط الاختيارات التقليدي السائد والسياسات التعليمية.

ربما كان ذلك مقبولا في المراحل الأولى لنشأة الجامعات على المستوى القومي، لكن استمرار ذلك الآن وبعد ما يقرب من قرنين من نشأة الجامعات في مصر يحتاج إلى تأمل ربما تضع له تلك الدراسة المقترحة قواعد مؤسسة، وربما يكون قابلًا للدراسة هنا كيفية إعادة مركزة الجامعات في إطار خطة مستقبلية لاحتياجات المعرفة في مصر وارتباطًا باستراتيجية الدولة وحركة التطور العام للمجتمع والعالم تقنيًا ومعرفيًا، بمعنى أن تكون جامعة ما هي مركز مثلا لتعليم وبحث متخصص في مجال علمي دقيق توجه أغلب الموارد لذلك وترسل البعثات الأكثر في هذا التخصص، وتتم مناقشتها عن إنجازها الدولي في هذا الصدد، في حين تعمل جامعة أخرى في مجال علمي آخر تتطور وتنمو من خلاله بحوثها ومخرجاتها فيه، وهكذا يمكن التأسيس لنظام منجز، وأيضا متابعة علمي شامل للأداء الجامعي نوعيًا من حيث مدى التطور الحادث ومدى القيمة المضافة سنويًا في مجال الاهتمام المركزي، مقاسًا بمنجز دولي وتحقق نوعي وعدد براءات الاختراع ومدى تناسب الإنفاق مع المنجز المعرفي والإضافة للاقتصاد المصري.

سيكون هذا داعمًا لمأسسة جديدة عصرية لمنظومات التعليم الجامعية وداعمًا لارتباط وثيق بمراكز العلم المتخصصة في الخارج، وأيضًا يشكل مسارًا واضحًا يوجه الطلاب المنشودين نحو ما يناسب شغفهم وقدراتهم، ربما يحدث ذلك أحيانًا أو بعضًا منه هنا أو هناك بشكل متناثر، ولكنه يحتاج إلى استراتيجية قومية شاملة تحدد الأهداف وتقيس النواتج، ونحو قيمة مضافة مؤثرة وملموسة معرفيًا، وإنسانيًا لمقدرات الدولة المصرية، وربما يكون ذلك نزوعًا مستقبليًا جديرًا بالبحث والعمل.

إعلان