إعلان

شجرة داكنة.. "قصة قصيرة"

د.هشام عطية عبد المقصود

شجرة داكنة.. "قصة قصيرة"

د. هشام عطية عبد المقصود
07:10 م الجمعة 09 أكتوبر 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

ترك الحديث الثقيل المحتشد بتفاصيل مرهقة يتدفق دون أن يقطعه، كان يبدو أنه يستمع في اهتمامٍ جمٍ، يتفرع الكلام من نبع النقطة ذاتها كأنهار صغيرة من أنين، عرف أن هدوءه قد انقطع، وأنه لا يمكن بسهولة استعادته ثانية، أفسح مجالًا كثيرًا لكلمات مترادفات تجاهد؛ لتصف شعورًا، بالتعب من أشياء الحياة، تلك التي يعرفها البشر جميعًا، لكن بعضهم يصر أنه ربما كان الكائن الأول الذي يختبر طزاجتها، يردد داخله: ما ألذ هذا الشعور المسترخي!.

منح مزيدًا من إنصات، وفعل جهدًا كبيرًا؛ ليؤكد إحساسًا واضحًا بإظهار مشاركته، كان فقط يتوسل داخله كي لا يضطر أن يتحدث كثيرًا، لم يكن يريد الكلام، جعل بعد وقت من اتصال الحديث محاولة عقلية يتقدم فيها رويدًا لاستجلاب هدوء غاب، ويحاول أن يستحضره مصرًا، كما لو أن الكلام خلفية تشحب، يحاول متمرنًا أن يتقدم في المحاولة، من أجل ذلك سيكتفي بكلمات آلية، سيقول فعلا.. ويسأل في دهشة: معقول؟!، فقط لكي لا يبدو فظًا وقاسيًا، لن يعلن أبدًا أنه لن يستطيع تحمل المزيد، وسيغلق رنين الهاتف فورًا تأكيدًا لإصغائه التام وانتباهه الكلي، سيمنح ذلك قدرًا أكبر من إحساس بفرادة الحكاية وانتصار مهم للرواية الذاتية على كل حكايات الألم والحزن المتناثرة حولهم، والتي يمتلئ بها الكون.

في صمته ذلك يتذكر أن هذه حكاية واحدة لإنسانٍ واحدٍ، ود من التعب أن ينظر إلى الطريق ويقول: هيا أيها البشر المارون والجالسون والنائمون أطلقوا حكاويكم.. فكر أن لو كل حكاية من تلك صارت بالونًا، وأخذ رويدًا ينتفخ بالتفاصيل، ثم انطلقت جميعها في السماء، يا ترى كيف ستتشكل نهارًا ظلمة الكون حين تحجب شمسها بالونات الألم العظيم؟.

يهمهم ويوافق وهو يستمع، يقرر داخله: هكذا كل منا يحمل حكايته بالونًا يمسكه شفافًا بيديه ويسير، لا نراه بوضوح سوى عندما نقترب قليلاً، كل قرب إيذانًا بحكاية ألم وبالون جديد محتشد بتلك التفاصيل الثقيلة، والتي ربما هي ذاتها لكن ترتيبها وتوقيتها مختلف، ثم تأتي لحظة كهذه ينتظرها البعض ربما منذ ولادتهم؛ ليطلقوا قصة بالونهم المنتفخ بالألم والحزن، حكاية تصير مع الوقت واحدة مهما تنوعت التفاصيل أو كثرت واستفاضت، تبدو الاختلافات فقط في موعد انطلاق البالون في الهواء مرئيًا وليس في استمرار امتلائه.

لم يشأ حين بدأت التفاصيل تزداد إرهاقًا أن يوقف ماكينة ضخ الكلمات، أراد أن يكون أكثر طيبة من ذلك.. تناول فنجان القهوة الأبيض الموضوع أمامه وحمله إلى فمه، كان شبه فارغ شعر بمرارة مطحون حبيبات القهوة المترسبة في القاع.

قال: لو استطاع الواحد أن يكون في مركبة فضائية فقط؛ ليجرب لحظة مفارقة جاذبية الأرض وهي تخرج عن مدارها، ويطل على كل بالونات الكون، أعاد التفكير في بلايين البالونات التي تحمل الحكايات الصعبة، تمنى لو استطاع أن يثقبها ويعود منتصرًا باسم كل أولئك المنتظرين، سيصنع وقتها شعارًا جديدًا: "يا بشر العالم ابتسموا"، يفكر لو أمكنه أن يجمعها كلها في بالون واحد كبير؛ ليسهل عليه سرعة أن يثقبه.

يحمل أشياءه القليلة من على المنضدة ويمضي، يقرر أن يسير قليلاً، كان شكل النهار غائمًا مغريًا بالتأمل، يمضي متمهلاً، حيث تترى الأشجار كبيرة تتخللها مساحات صغيرة من حدائق زهور، يقول: هكذا الحزن، شجرة صغيرة تُزرع ذات يوم، شجرة واحدة من بين كل تلك الشجيرات الكثيرة المتراصة، تنمو مبكرًا دون أن ندري، وتنمو معها وإلى جوارها أشجار أخرى: "شجرة الأمل مثلا، شجرة الشغف، شجرة الثقة، شجرة التحقق، وشجرة السبق"، وأشجار كثيرة، تحمل كل ما يتضمنه كتالوج الحياة اليومي، وهو يمضي كل يوم؛ ليضيف جديدًا.

في البدء تكون شجرة صغيرة غير ذات ملامح خاصة، تنمو وسطهم ومثلهم، ثم تتوه وسط كل ما حولها، لكنها وذات يوم ما تمد جذورها خفية؛ لتتلمس غذاء وماء كل ما حولها من شجر، وتتعمق في الأرض، تثبت نفسها بقوة، حتى تصحو ذات يوم؛ لتجدها أكبر من كل هؤلاء، وارفة الأفرع تستطيل وتمتد داكنة؛ لتصير هي مظلة الشجر ويصبح كل ما حولها شجيرات تستظل بها، ويمنحون ذات طعمها المر.

إعلان