إعلان

عن ذلك التعليم الذي يصفونه "كلاسيكيًا"؟

د.هشام عطية عبدالمقصود

عن ذلك التعليم الذي يصفونه "كلاسيكيًا"؟

د. هشام عطية عبد المقصود
07:00 م الجمعة 02 أكتوبر 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

مضت جائحة "كورونا"؛ لتضع لمساتها على كل منحى ونشاط إنساني، ولعل أكثرها تداولاً ما يخص مجال التعليم في المدارس والجامعات، حيث وسعت من مجالات تطبيق المنصات الرقمية والتعليم عن بعد؛ ليكون بمثابة جسر لتجاوز المشكلات الاحترازات الصحية، وتلافي التأثيرات السلبية للتجمعات، وكما شهد العام الدراسي الماضي ذلك.

لكن البعض يجتهد في رؤية ذلك باعتباره ميزة كبيرة فرضتها "كورونا" بأنها سرعت من التحول نحو منظومة التعليم عن بعد عبر شبكة الإنترنت، باعتبار ذلك في رأيهم هدفًا في ذاته، من دون الوعي بأن أساليب التعلم ووسائطه هي أدوات ووسائل؛ لتحقيق هدف التعليم، وهو تطوير شخصية الطلاب بالمعارف والمهارات المتخصصة مع بناء تفاعل إيجابي لهم مع الواقع، بما يسهم في التطوير والتنمية المجتمعية.

وفي هذا السياق اندفع البعض بلا تأنٍ نحو التنظير غير المحدود، وبلا اشتراطات، أو تحفظات لتمجيد ذلك التعليم -عن بعد-، وإطلاق مسميات التعليم "التقليدي" على منظومة التعليم قبل ذلك، وحيث تتبدى فجوة متسعة بين دلالتي كل من كلمتي الكلاسيكي والتقليدي في الحديث عن التعليم عن بعد.

حيث تحمل مفردة كلاسيكي معنى أشمل لا يجعله مرتبطًا بالضرورة أو بالتوازي مع الماضي، وليكون بمثابة وصف يطلق على المنتج الثقافي والفني -ولو لم يكن قديمًا-، كما تمتد؛ لتتضمن أيضًا الأعمال الرائدة أسلوبًا وخصوصيةً، والتي تم إنتاجها عبر الزمن، فظلت مجالاً للإلهام والتعلم أو حتى لتقليد حديث ومعاصر في مجالات الفن والموسيقى والأدب والثقافة والتعليم عامةً.

أما مفردة تقليدي فهي تتسع؛ لتتضمن دلالة ما ذات منحى سلبي، وأنها قد تكون مجرد اتباع العادة التي هي بطبيعتها قد تتضمن ما هو إيجابي وسلبي معًا.

علينا الوعي بأننا إنما نقلل من حضور النمط الكلاسيكي في مجال تقديم المحتوى التعليمي للطلاب ارتباطًا بظروف ومستجدات فرضتها جائحة "كورونا"، وأن ذلك الانتقال مشروط ووقتي، وأننا نتحول جزئيًا أو نسبيًا عن التعليم الكلاسيكي، الذي نعي وندرك قيمته وجوهره وفائدته ومجالات تجديده الكامنة في جوهره، والتي لا تتنافى أبدًا، ولم تفعل ذلك يومًا مع توظيف آليات ووسائط التعليم عن بعد تيسيرًا ودعمًا لمنظومة التعليم.

ولكن ما هي مزايا ذلك التعليم الكلاسيكي، ستعرفها عندما تتذكر دومًا من أثروا بك فكرًا وثقافة ومعرفة وشخصية في مجال تعليمك، خاصة وأن الأسرة تمنح الطفل منذ سنواته الأولى للمدرسة؛ لتكون شريكًا رئيسًا في التنشئة، بما تضمه من تلاميذ متنوعين ثقافةً وديانةً وطرق حياة، فيتعلم التعايش والتسامح والتفاعل المبدع، فيستمر معه ذلك عبر سنوات حين يلتحق بالجامعة، فيكون الحوار وفتح آفاق المعرفة الرحيبة هو الأثر المباشر، ليس فقط للمحتوى التعليمي المباشر، ولكن بالتوازي عبر لقائه بكل زملائه، وقد نضجوا عمرًا وفكرًا وتنوعوا ثقافةً ورؤيةً.

ستعرف دومًا تأثير ذلك التعليم الكلاسيكي عندما تتذكر أساتذتك، وأن تأثرك بهم نجم دومًا عن معرفة شخصية وحوار إنساني متسع ترتب عليه نقل الخيرة، أو كما اعتاد محاضر أن يقول لطلابه منوهًا في أولى محاضرات العام الدراسي، إنني لست مصدر المعرفة الوحيد، وإننا سننفتح على قراءات وتجارب متنوعة بعضها لا يشبه ما أقول.. وأن جهدي وعملي لو اقتصر على أن أنقل لكم محتوى علميًا صار موجودًا في كتب أو منصة إليكترونية، فإنه يمكنني أن أرسله لكم يسير على قدمين روبوتًا صغيرًا يقدم لكم محتوى علميًا غير خالٍ من تحيات البدء، ولا ينتهي قبل وداع ختام المحاضرة.

"كلاسيكي".. أن يزداد شغفك وبراعتك وأنت تنظر في عيون مندهشة أو تستمع في اهتمام فيجلب لك ذلك مجالات ونطاقات ورؤى غير ممكنة ولا حاضرة عبر نص ثابت يُقدم في مواجهة -لا متفاعل-، ثم أن يباغتك استفسار فيستدعي مخزونك المعرفي والثقافي، وقد يتحداه أو على الأقل يحرك رغبتك في مزيد من التحقق بشأنه، أن تتذكر كتابًا أو نصًا أو عملاً أدبيًا أو موسيقيًا، فتفتح أفق الطلاب على مجال غير مباشر بمحتوى المحاضرة، ولكنه وثيق الصلة ببناء معارفهم ومدركاتهم، فيدهشونك بقراءة مستفيضة في محاضرة تالية، أن تحل أبًا ومستمعًا لبعض ما يعن لطلابك من شأن وهموم وتسعى فيها جادًا ومهتمًا، فتشعر أنك تبني طابقًا في براح إنساني "لا شية فيه"، وأنك تأخذ بيد أحدهم خطوة في طريق مستحق.

أن تكون كلاسيكيًا فتتمكن من تقييم طلابك قدرةً وخبرةً عبر معرفة شخصية متأنية، فتقدم عونًا إن أمكنك ذلك لموهوب أو متميز تعوقه الظروف والسياقات –التي دأبت المجتمعات النامية على عرقلة الأذكياء بها كاختبار عزم وبقاء– وتفرح به حين تراه ينتج ويتحقق أبًا حقيقيًا، أن تكون في مجال تعليم كلاسيكي فتصنع نشاطًا تفاعليًا، فتؤكد على صلة الدارسين والطلاب بالحياة، وتقلل من توحد وغربة جيل شاب ارتبطت عيونه وأصابعه بشاشة الموبايل، فأورثت لدى البعض مشكلات اغتراب نفسية واجتماعية تؤكدها بيقين الدراسات.

عندما يحلو للبعض أن يضعوا كحلاً في عيني التعليم عن بعد خيارًا وحيدًا فريدًا، وليس مسارًا متوازيًا وميسرًا في مواجهة الظروف الملحة، فعليهم أن يضعوه رويدًا وعلى مهل، وهم يتذكرون فضائل كل ذلك التعليم الكلاسيكي، الذي جعل مصر ومدارسها وجامعاتها ذات أوان، وقد وفد إليها عرب وعجم أمراء وكبراء متعلمين وحاملين الأثر، وشرف التواجد بين جنباتها، وهو موثق في مذكرات هذا الجيل من القيادات العربية، ولو كانت تلك هي الكلاسيكية، فما أبهاها، وكم نتمنى أن تحل دومًا سهلاً وتنزل أهلاً.

إعلان