إعلان

الشعر.. والذكاء الاصطناعي

د. غادة موسى

الشعر.. والذكاء الاصطناعي

د. غادة موسى

أستاذ مساعد - كلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة 

09:01 م السبت 04 يناير 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

قد يندهش البعض، ويتساءل: ما علاقة الشعر بالذكاء الاصطناعي؟ في الواقع، هناك علاقة على المستوى الهيكلي بين الموضوعين.

بادئ ذي بدء يجب التنويه إلى أن الذهنية بشكل عام لم تعد مهيأة للربط بين الموضوعات أو البحث في الأصول المشتركة؛ فالجميع انشغل بالتخصصات الدقيقة: فالشاعر قد يكره الأرقام ولا يرى فيها علاقة بشعره، والمتخصصون في علوم الرياضة والحواسب يرون في الشعر عاطفة وفناً ومجالاً خارج نطاق العلم.

والحقيقة تقول إن كليهما خطأ. وهذا الاستنتاج قد يمثل صدمة فادحة لأصحاب ومناصري أيٍ من المجالين.

وما ذهبت إليه ليس محض صدفة؛ إذ عايشت هذه القطيعة المعرفية- وما زلت- مع الزملاء في المجالات التي شرفت بالعمل معهم فيها.

---

إن التعامل المبتسر مع الموضوعات والأفكار لم يوصلنا لشيء. ولن يوصلنا لشيء. فتاريخ العالم ينبئنا أننا في خطر "معرفي- بنيوي". وكما سبقت الإشارة في مقالات عديدة إلى أن علماء الماضي والحاضر القريب كانوا موسوعيين؛ فلم تعرف القطيعة المعرفية طريقا إلى أذهانهم، فلم يكن ابن خلدون عالماً للاجتماع فقط، بل كان كيميائياً ورياضيا.

ولم يكن حمورابي رجل قانون، بل كان اقتصادياً وفيلسوفا، مثلما لم يكن دافنشي أو بيكاسو رسامين، بل كانا فيلسوفيّيْن وسياسييْن.

إذن، ما الذي حدث لنا وللعالم؟ هل التخصص الدقيق في كل فروع المعرفة أفادنا؟

في رأيي المتواضع "لا"، على الأقل على مستوى تكوين الذهن وبناء العقل.

ولا أحتاج لأن أدلل على ذلك؛ فالمتابع كلَّ ما يتم تناوله من موضوعات وأفكار سيكتشف هذه القطيعة المعرفية عند تحليل أي موضوع أو فكرة. فلا نحن كنا هكذا، ولا هم- أقصد الغرب- كانوا كذلك.

في الواقع يوجد ارتباط هيكلي بين الشعر والذكاء الاصطناعي؛ فكلاهما لا يُتعلم! فلا أحد يعلمك كيف تكون شاعراً، ولا أحد سيعلمك كيف تبتكر أو تستخدم ملكاتِك لتحسين حياة البشر. يمكن أن نتعلم إدارتها وتنميتها، لكن لا نتعلم خلقها. يمكن أن نرعاها، ولا يمكن أن نقول لها أو له غداً ستصير شاعراً، أو غداً ستتعلم كيف تنتج ذكاء اصطناعياً.

هذه منطلقات من الأهمية بمكان التفكير فيها واستيعابها لأمرين، أولها ضمان الاستدامة، وثانيها عدم إرهاق أنفسنا في الانشغال بالبنى والمقررات وإنشاء كليات متخصصة في الذكاء الاصطناعي.

---

ببساطة شديدة، لأن الأمر مرتبط بالابتكار. والابتكار يحتاج لمن يكشف عنه، ويتيح له الفرصة وينميه. وليس بالضرورة أن نكون جميعاً شعراءَ ومبتكرين.

والأول أكثر صعوبة من الثاني؛ فالشعر تعبير ونظْم حروف وكلمات وعبارات بلاغية لتصوير حالة وجدانية منشؤها حدث أو رغبة أو أمل... إلخ.

كذلك منتجات الذكاء الاصطناعي- الأكثر يسراً من الشعر- حلول لمشكلات اجتماعية، بالمفهوم الواسع للعلم الاجتماعي.

وقد يتولد هذا الابتكار الذي يقود إلى منتج ذكي لدى فرد في الحقل أو في المدرسة أو في المنزل أو في المعمل أو في أي مكان. الأهم هو كيفية الوصول إلى هـؤلاء ورعايتهم وحمايتهم وتنميتهم والاستثمار في منتجاتهم.

بعبارة أخرى، لا بد أن تنصرف سياسات الابتكار التي تقود إلى منتجات الذكاء الاصطناعي إلى ابحث أولاً عن المبتكرين وأصحاب الأفكار الذين يقدمون حلولاً لمشكلات المجتمع أولاً. كما تقام مسابقات لاكتشاف الشعراء والموهوبين.

إن سياسات تنمية منتجات الذكاء الاصطناعي تحتاج إلى حضانات أكثر منها إلى كليات وقاعات درس. وأن تُفتح المجالات لأن يتقدم لتلك الحضانات كل من لديه ابتكار أو فكرة ذكية تخدم المجتمع في المقام الأول.

وبنفس الذهنية الموسوعية يجب ألا يُفهم المجتمع باعتباره الأفراد الذين يعيشون في مكان ما؛ إذ يشمل المجتمع المصنع والشركة والبنك والمعمل والبيئة السياسية والاقتصادية وكل الفضاءات المعرفية؛ فعالم الرياضيات عالم "مجتمعي". والأديب عالم " مجتمعي".

---

في السياق نفسه، تحتاج سياسات الذكاء الاصطناعي إلى التفكير في كيفية إدارتها وتنسيقها وتوفير الأطر التنظيمية والقانونية لها، والانتقال من الانشغال بالبحث عن "ماذا"، إلى التفكير في "كيف"، و"لماذا".

إعلان