إعلان

محمد زايد الألمعي والخلاص بالصدق والعشق

د. أحمد عمر

محمد زايد الألمعي والخلاص بالصدق والعشق

د. أحمد عبدالعال عمر
09:06 م الأحد 19 يناير 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يبدو الشاعر والمفكر محمد زايد الألمعي بجسمه الضئيل، وملامحه الدقيقة، وصوته الشجي، وحيويته المتوقدة، وبساطة مظهره، وعشقه مباهج الحياة - مثل "شاعر جوال" ينتمي إلى زمن حميم وحنون لا علاقة له بعالمنا القاسي الفاقد المعنى؛ ولهذا فهو يبعث فيك مشاعر الثقة والأمان والألفة بمجرد رؤيته، فترغب في الاقتراب منه والدخول إلى عالمه، وأنت تظن واهماً أن ذلك أمر يسير.

ومع مرور الوقت تكتشف أن ظنك في غير محله، وأنه مثل كل المميزين من البشر، له ظاهر متاح للعامة، وباطن للخاصة فقط. وأنه بحر عميق الغوار، ومهما تكن براعتك في الغوص فلن تبحر فيه، وتصل إلى أعماقه ما لم يقبل هو راضياً أن يفتح لك قلبه وعقله وحياته، ويُدخلك ملكوته.

ولأنه ابن أصيل ونبت بهي لجلال وجمال جبال "عسير"، فهو يُخفي في أعماقه جينات وسمات أسلافه الجبليين الذين غالبوا صعوبات البيئة والحياة أمداً طويلاً، وهو يمتاز مثلهم بعزة النفس والشموخ والإباء، والذكاء الفطري الموروث، وطول الصبر على المكاره، وقوة الأعصاب والقدرة علي التحكم فيها. وهو مثلهم بـ"سبعة أرواح"؛ قد يضعف وتمر به الشدائد والمحن، لكنه لا يقبل الهزيمة ويخرج منها أقوى وأشد.

ولهذا يقول في قصيدته أناشيد الشمس:

"عندما أخرج في العتمة محمولًا على شمس جديدة

أفضح الشمس التي تكذب للموتى وتغفو

أفضح الشمس العتيدة

ثم أبني وطنا من أبجديات الحجارة

وطنا يقتنص البرق

وينقض على ثلج الهنيهات البليدة

وطنا عذبا يرجّ الماء في غصن السؤال".

وهو إلى جانب تلك السمات النفسية والخُلقية، له حظ وافر من المزايا الإبداعية والعقلية؛ فهو شاعر مبدع، متمكن من أدواته، له حضوره المتميز وشخصيته الشعرية المستقلة، وقاموسه اللغوي الذي ينحت مفرادته وتعبيراته وصوره من جبل خفي من الكلمات لا يعرف أحد طريقه غيره.

كما أنه ذو ثقافة رفيعة وحس فلسفي عميق يُمكّنه من النفاذ إلى ما وراء الأشياء والأحداث والأشخاص، فيرى الأمور كما هي لا كما يُراد له أن يراها.

وهو قبل كل ذلك عاشق أصيل، ولهذا نراه في قصيدته "عن اللغة الممكنة" يقول:

"في شوارع لا ترفض الغرباء

ضائعين نفتش فينا عن البسطاء الحميمين والحالمين

أنتِ: لا تعرفين التعطش في شاعر

يرسم امرأة في ضفاف يديه ويجعلها صهوة للبكاء

وأنا أجهل الكلمات التي تخلق الشعر من قسمات النساء

كم أرانا قريبين من بعضنا

حين نستغرب البحث عن لغة

خبأتها المسافة ما بيننا ...

إنها اللغة الممكنة

لغة الماء والسوسنة

لغة الأرض والأحصنة

لغة تمزج الكون في سمت من كوّنه.

وهو القائل أيضًا عن الخلاص بالعشق، وفي المرأة عندما تصبح وطنًا بديلًا:

فلنفترض مطرا لنورقْ

ووميض أمنية لنشرقْ

ولنجعل الأحلام تكتبنا

وترفعنا على الأيام بيرق

ولنفترض أشياء تفرحنا قليلا

قبل تخذلنا، لعل الوهم يصدق

هذا الذي نحيا به دون الفناء

ونرتجيه قبيل نغرقْ

فنؤجل الأقدار والأعمار بالهذيانِ للأوطانِ

غافلةً عن الإنسان بالنسيان والعبث المنمق

ولنفترض أنا عشقنا مثل كل الناس

أشعلنا الحكايات الشفيفة، تستلذ بها أمسياتنا

تؤججنا فتبهجنا

وتوجعنا فنقلق

ونعود مأخوذين نفترض النساء

فنرتجي أطيافهنّ

يلجن في الأحلامِ

يغسلن الجلود المترباتِ الظامئاتِ لغيمةِ الجسد المعتَّـقْ ...

ونعشقُ .. ثم نعشقُ .. ثم نعشقْ".

ومحمد زايد الألمعي هو أيضًا رمز من رموز الحداثة في المملكة العربية السعودية، وقد خاض من أجل تكريس أفكارها وقيمها معارك كثيرة، ودفع لهذا ثمنا كبيرًا. وقد عاش حياته محاربًا صلبًا ضد كل أشكال الإقصاء والتعصب والتكفير والتوظيف السياسي للدين، ولهذا قال بشجاعة كبيرة ومنذ زمن طويل في قصيدته "حارس السنبلة:

"أعيدوا المساجد لله

والقمح للمنحنين أمام محاريثهم في الحقول

ولا تجمعوا بين جوع جماجمكم

والجياع المساكين تحت جنى الجنتين الظليل".

في النهاية، هذا إنسان صادق ونبيل، وشاعر ومفكر جدير بالقراءة والاحترام والتقدير، وقد عرفته منذ أكثر من خمسة عشر عامًا، واقتربت منه، فأراني دفاتره وخرائط أحلامهِ، فقرأت الإنسان والفكر والقصيدة. ورأيته دائمًا شابًا حالمًا، وشيخًا حكيمًا، وعاشقًا أصيلًا، وشاعرًا مبدعًا يجيد الحوار مع ذاكرة أرضه، ويجعلها أفقا لروحه ونصه.

كما عرفته مثقفًا صادقًا لا يخون مبادئه وقناعاته، ولا يعرف أنصاف المواقف، وناقداً واعياً لواقعنا ومشكلاتنا، ومستشرفاً وداعياً لآفاق مستقبل واعد يليق بنا، مستقبل يجعل على هذه الأرض العربية ما يستحق الحياة.

إعلان