إعلان

يوم كان شرف مصر في نخبتها

د. أحمد عمر

يوم كان شرف مصر في نخبتها

د. أحمد عبدالعال عمر
08:11 م الأحد 11 أغسطس 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

ما أكثر الرجال العظماء الذين حفل بهم تاريخ مصر الحديث! وكان موطن عظمتهم أنهم عشِقوا وطنهم، وأحبوا شعبه، وبذلوا الوقت والجهد ليقوم هذا الوطن من عثرته، ويشفى من أمراضه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وينهض، ويتطور، ويتقدم؛ ليحتل المكانة التي تتناسب مع مقوماته وتاريخه وحضارته وسمات شعبه وأصالته.

وهؤلاء هم نخبة مصر الحقيقية من رجال العلم والفكر والدين والاقتصاد والسياسة، الذين تحلوا دائمًا بسمات شخصية وفكرية مميزة، وكانوا مصدر قوة مصر الناعمة، وواضعي أسس قوتها الصلبة.

وفي كتاب "فجر الضمير المصري الحديث"، الذي جاء سياحة في وجدان مصر في القرن التاسع عشر وبعض ما عاشته مصر في القرن العشرين، تعرض الشاعر الراحل صلاح عبدالصبور لمواقف من حياة بعض رموز النخبة المصرية الحقة وسيرهم التي تبدأ بشيخ الأزهر الشيخ حسن العطار، ومن بعده الشيخ رفاعة الطهطاوي، لتمتد في الزمان إلى كل مَن يكتب حرفًا صادقًا في هذا الوطن، صحفيًا كان أو أديبًا أو عالمًا أو مفكرًا.

وقد رأى صلاح عبدالصبور أن تلك النخبة كانت دائمًا هي "شرف مصر وعنفوانها، وشارة تجددها ومواجهتها مصائر الزمان"، وأن أهم ما ميز أفرادها عن غيرهم من أبناء المجتمع والمشتغلين بالشأن العام هو "النزاهة الفكرية".

والنزاهة الفكرية عند صلاح عبدالصبور هي القيمة الخلقية الأولى التي يجب أن يتحلى بها أفراد النخبة من أهل الفكر والتأمل والبحث والكتابة؛ فهي التي تُبرر وجودهم، وتمنحهم تميزهم في المجتمع، وتمنحهم دورهم في القيادة والتوجيه.

ويمكن تعريف النزاهة الفكرية بأنها: "المقدرة على تخليص النفس من تحيزاتها وأهوائها، ومحاولة النظر إلى الحقيقة في قلبها وصميمها. واعتبار الحقيقة هدفًا يُطلب لذاته بغض النظر عن انتماءاتنا وميولنا".

أي أن جوهر النزاهة الفكرية التي ميزت النخبة عند صلاح عبدالصبور هو الإخلاص للحقيقة والوطن فقط، والتجرد عن الهوى والمصلحة الشخصية، فيما يقولونه، ويكتبونه، ويفعلونه، والبعد عن القيود والتحيزات التي تتسبب فيها الانتماءات والميول الأيديولوجية والسياسية الضيقة.

ولهذا يرى صلاح عبدالصبور أن كلمة "النخبة" تُظلم كثيرًا عندما تُلحق بأهل الثراء المادي أو أهل السلطة؛ فالنخبة الحقة في أي مجتمع هي نخبة العقل والفكر، التي تستهدف الصالح العام، وخدمة المجتمع، وهي وحدها التي تستحق أن تُسمى بهذا الاسم.

كما يرى أن الانتماء إلى "النخبة" ليس ميراثًا أو منحًا، بل يأتي اكتسابًا بعد امتلاك سمات ومهارات وفضائل معينة، تحتاجها مجتمعاتهم؛ منها فضائل تُنسب إلى عالم الأخلاق مثل الصدق والنزاهة والتجرد والكرم وغيرها. ومنها فضائل تُنسب إلى عالم القيم والمهارات، مثل القدرة على التفكير، والقدرة على الحسم واتخاذ القرار في المواقف المختلفة، وتنمية الإحساس بمعنى الولاء للوطن والتاريخ، والجراءة على اكتشاف حلول جديدة للمشكلات والمُعضلات التي تواجه الوطن، واستشراف المستقبل.

ولهذا يُقسم صلاح عبدالصبور حياة أفراد النخبة الحقيقية لثلاث مراحل لا يمكن أن يصير الإنسان من النخبة إلا إذا مر بها مجتمعة:

المرحلة الأولى: النظر في الواقع الذي نشأ الإنسان فيه، واستبيان عيوبه ونواقصه.

المرحلة الثانية: الاعتزال للتأمل في هذه العيوب والنواقص، والبحث عن سبل علاجها.

المرحلة الثالثة: العودة إلى المجتمع بهذا الحمل الثقيل السعيد المُلقى على ظهورهم، وهو الحلم بتغيير المجتمع إلى الأفضل، من خلال العقل والحوار، كما كان يفعل الفلاسفة والأنبياء، أو من خلال تجميع خيوط السلطة في أيديهم، كما فعل المشرّعون والسياسيون العظام.

والخلاصة أن الانتماء إلى "النخبة" الحقة ليس بالأمر الهيّن، وليس مجرد صفة يطلقها البعض على أنفسهم تعسفًا وبعدًا عن حقيقتهم ودورهم.

ولهذا أرى أن كتاب "فجر الضمير المصري الحديث" للشاعر الراحل صلاح عبدالصبور هو كتاب جدير جدًا بالقراءة.

وكم أتمنى أن يكون الكتاب بالكامل أو مقدمته فقط على الأقل من المُقررات التي تُدرس في مرحلة التعليم الثانوي، لتنمية الوعي الوطني لدى أبنائنا في هذه السن الحرجة، ولكي يكتشفوا- من خلال مقدمة الكتاب والشخصيات التي يعرضها- المعنى الحقيقي لمفهوم "النخبة" التي كانت يوما ما هي شرف مصر.

ولكي يكتشفوا أيضًا- بالمقارنة مع تلك الشخصيات العظيمة- كيف ابتُذل مفهوم "النخبة" كثيرًا هذه الإيام حتى صارت مصيبة مصر في نخبتها.

وكيف صار وصف النخبة سُبة تُطلق على بعض الناس تهكمًا عليهم، وتقليلًا من فاعليتهم وقيمتهم ودورهم في مجتمعهم.

إعلان