إعلان

إصلاح التعليم وتطوير إمكانات الأستاذ الجامعي - الجزء التاسع

د. غادة موسى

إصلاح التعليم وتطوير إمكانات الأستاذ الجامعي - الجزء التاسع

د. غادة موسى

أستاذ مساعد - كلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة 

09:00 م السبت 06 أبريل 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تحدث السيد الرئيس أول أمس أثناء منتدى التعليم العالي عن ثقافة التعليم، وأهمية الاعتناء بها. ومن يستطيع أن يحدث التحول في ثقافة التعليم سوى الأستاذ الجامعي في معرض حديثنا عن إصلاح التعليم العالي في مصر؟

فعليه تقع مسؤولية بناء ثقافة ومفهوم جديد للعلم وللتعليم الجامعي يحققه من خلال التأكيد على العلم وثقافة العلم ومنهجية العلم والبحث العلمي وتطوير محتوى المواد التعليمية، والأهم مما سبق ترغيب الطلاب فيما يتعلمونه بدون إهمال أو تهويل وتعقيد. إضافة إلى منح الطلاب حرية النقاش والتساؤل والنقد بدون أن يكون لذلك مردود سلبي على الطالب نفسه.

----

واستكمالاً للجزء الثامن الذي تم فيه تناول كيفية تطوير إمكانات الأستاذ الجامعي، فهناك عدد من المعايير التي بموجبها يصبح الأستاذ الجامعي أستاذا جامعياً. البعض يطلق عليها معايير الجودة، وأميل إلى تسميتها "بمتطلبات وشروط القدرة على التعلم والتعليم". فالأمر لا يقتصر فقط على حصول الأستاذ على درجات علمية كالماجستير ثم الدكتوراه، وإنما يمتد أيضاً إلى الكيفية والموضوع الذي حصل به الأستاذ الجامعي على درجاته العلمية. والمقصود بالكيفية المنهج العلمي الذي سلكه وإسهاماته العلمية في أطروحاته الأكاديمية ثم الأبحاث التي قدمها ليضيف إلى العلم.

وفي هذا الصدد قد يرى بعض المختصين أهمية أن تتواكب الأطروحات والبحوث العلمية مع قضايا وموضوعات ومتطلبات العصر. وهو توجه وإن كان صحيحاً للوهلة الأولى إلا أنه يخالف مفهوم العلم ذاته. فالعلم -مفهومًا وموضوعًا ومنهجًا- لا يعتد بالزمان أو المكان. العلم فضاء حر. العلم في تطويره يعتمد على العقل الناقد وليس على العقل الناقل. فمن الجائز أن ينتقد باحثاً يعيش في الألفية الثالثة في العالم النامي نظرية خرجت في عصور التنوير في أوروبا أو يستكملها. وهو ما أطلق عليه الدكتور فؤاد زكريا "التدخل التجريبي للتغيير"؛ لذلك على أستاذ الجامعة أن يكون لديه الوعي بأن العلم هو أبنية معرفية نسقية. وعندما نتحدث عن مواكبة روح العصر وقضايا العصر لا بد من أن يكون أستاذ الجامعة ملمًا بحقيقة أن روح العصر ما هي إلا علاقة الإنسان (الباحث وأستاذ الجامعة والعالم) في وجوده بالطبيعة وبالنفس وبالمجتمع. وأي علم يقدمه أستاذ الجامعة لا يسهم في الكشف أو تحليل هذه العلاقة في وجوده الإنساني ومن ثم تطويرها يصعُب تسميتها " بالعلم".

ومعضلة العصر الذي نعيشه في إطار الحديث عن تطوير التعليم الجامعي أن الأستاذ قد تكون لديه ثقافة الاكتفاء الذاتي أو ثقافة الحقيقة المطلقة التي تقتل الفضول المعرفي وتعتمد على التفكير المختزل برد كثير من الظواهر التي من المفترض أن يكشف عنها العلم إلى علل خارجها أو خارج السياق الجغرافي الذي يعيش فيه، فيضحى من المسلمات "المعرفية" أن هذه النظرية هي هكذا وتوقفت عند هذا الحد ووصلت إلى نهايتها، ولا شيء يمكن إضافته لها.

-----

وثقافة العلم التي يجب أن يسهم بها الأستاذ الجامعي هي ثقافة التغيير عن وعي وإرادة. وهي الإيمان بقيمة الإنسانية وقيمة بناء الإنسان. والإنسان محل الحديث هنا هو الأستاذ الجامعي والطالب والمجتمع من حولهما. فثقافة العلم تمدنا بأداة وهي أداة العلم، وهي أداة تحقيق وحماية الوجود الإنساني وتطويره وكفالة أمنه واستقراره. فحري بكل أستاذ جامعي أن يسأل نفسه عن غايات العلم الذي ينقله للطلاب، وما إذا كان هذا العلم يسهم في بناء عقل وتطوير فكر الطلاب بما يجعلهم متلاحمين مع مجتمعهم وليسوا مغتربين عنه وعن قضاياه.

إن مهمة الأستاذ الجامعي هي "تعليم العلم" من خلال موضوعات تتبع حقول معرفية متنوعة. بل أصبحت من بين متطلبات الأستاذ الجامعي ليتمكن من تعليم العلم ألا يكتفي بحقل معرفي واحد بل أن يكون ملماً بحقول معرفية مترابطة ومتنوعة.

فعلى سبيل المثال تتطلب علوم القانون إلمام أستاذة القانون بعلم الاجتماع وعلم الاقتصاد وعلوم الحاسب الآلي حتى يتمكن من تطوير ثقافة علم القانون وأدواته العلمية.

في نفس الاتجاه، أساتذة كليات الآداب بأقسامها المختلفة -وبصفة خاصة أقسام اللغات- من واجبهم عدم الاكتفاء بالمحاكاة الفكرية ونقل أفكار الآخرين للطلاب، وإنما تطوير العلوم التي ينقلونها للطلاب من خلال الالتحام بذات العلوم في نفس الحقب الزمنية التي يُدرسونها. فالأستاذ الجامعي الذي يدرس في أحد أقسام اللغات الإقطاع في فرنسا، لا بد من أن يدرس ويحلل -بذات اللغة- الإقطاع في حضارات وعوالم أخرى خارج فرنسا ليضيف للعلم وللآخرين في فرنسا أيضًا.

الهدف هو أن يتحلى الأستاذ الجامعي في المتوسط العام بمعارف علمية كافية وأفكار كبرى تمكنه من النقاش بطريقة فاعلة ومفيدة.

----

لقد دخلت البشرية منذ القرن الثامن عشر عالم العلم. وما زال هذا العالم يفرض سطوته ويؤكد سيادته كل يوم. وأؤكد أنه عصر العلم وليس عصر الماديات، بل يمكن القول بثقة كافية أنه لم يعد عصر المعارف، ولكن أصبح "عصر ما بعد المعرفة" وأنه "عصر الأفكار". وأن لدي الأستاذ الجامعي أدوات علمية -إن أحسن تفعيلها- تمكنه من تحليل أفكار الماضي مقابل أفكار الحاضر بل استشراف المستقبل في كافة الحقول المعرفية.

لذلك، فإذا كانت البرامج التي تعتني ببناء قدرات أساتذة الجامعة تتعلق بالتدريس والبحث العلمي على النحو الذي تمت الإشارة له في الجزء الثامن من تطوير إمكانات الأستاذ الجامعي، فمن الأهمية بمكان أن تعتني تلك البرامج بتدريس مفهوم وثقافة العلم ذاته قبل الانطلاق للتعريف بأدواته. وأعدها من أولى خطوات تطوير إمكانات الأستاذ الجامعي ووصل القطيعة بينه وبين الهدف الذي وجد من أجله وهو تعليم العلم وثقافة العلم في موضوع أو حقل معرفي ما؛ لذلك من المفيد التفكير في منح أساتذة الجامعات والباحثين الحاصلين على شهادات الماجستير والدكتوراه شهادات في ثقافة العلم وتدريس العلم كشهادات خبرة وجودة في آن واحد.

فمن شأن هذه الدراسة والشهادة أن تؤهله وتساعده على إتمام أبحاثه العلمية التي يضيف بها إلى حقل العلم ونشرها ليتعلم ويستفيد منها الآخرون في الداخل أو الخارج.

إعلان