إعلان

 ونفس وما سواها

عمار علي حسن

ونفس وما سواها

د. عمار علي حسن
09:01 م الأربعاء 30 أكتوبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يعلو عند المتصوفة شأن التخلية التي تعني طهارة للقلب، وتزكية للنفس، أو تصفيتها من العلائق الدنية البدنية. ويستوجب هذا الأمر وضع الأوزار والذنوب، والتخفف الكامل منها، وتنقية الظاهر والباطن من الآثام والخطايا، تمهيدا للتزود بأعمال صالحة، أو التحلية.

وهذا يعني أنها عملية تفريغ السيئ السلبي كي يتم ملؤه بالحسن الإيجابي، ومعها يفارق الإنسان الحال والموقف اللذين كانا عليهما إلى نقيضهما، وبذا "ينتقل من الجهل إلى العلم، ومن الغضب إلى الحلم، ومن البخل إلى الجود، ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الطمع إلى القناعة، ومن الأثرة إلى الإيثار، ومن العقوق إلى البر، ومن المعصية إلى الطاعة.

والتخلية، التي تعني كمصطلح الإبراء والبراءة والطهارة والترك والإعذار والتفريغ ونفي كل عيب وإثبات كل كمال، هي عملية تفريغ في سبيل التزكية يتبعها شحن أو تزويد أو ملء متمثلا في التحلية.

وتقوم التخلية على إزالة كل ما في النفس من أفكار ومشاعر هي بمنزلة شوائب وعيوب ونقائص ومساوئ ومشاغل حول الماضي أو الحاضر أو المستقبل، وكل ما في القلب من أمراض، مثل الحقد والحسد والكراهية والتكبر.

ويحدثنا الصوفية في هذا الشأن عن "المحو" الذي هو في نظرهم "رفع أوصاف العادة، والإثبات هو إقامة أحكام العبادة. فمن نفى عن أحواله الخصال الذميمة، وأتى بدلَها بالأفعال والأحوال الحميدة، فهو صاحب محو وإثبات"، كما جاء في رسالة القشيري.

ويقول أبو علي الدقاق إن "الوقت محو وإثبات؛ إذ من لا محو له، ولا إثبات، فهو معطل، مهمل. ينقسم إلى محو الزلة عن الظواهر، ومحو الغفلة عن الضمائر، ومحو العلة عن السرائر، ففي محو الزلة إثبات المعاملات، وفي محو الغفلة إثبات المنازلات، وفي محو العلة إثبات المواصلات"، والله الذي قال في محكم آياته: "يمحو الله ما يشاء ويثبت"، هو القادر على أن يمحو من قلوب العارفين ذكر غير الله، ويثبت على ألسنتهم ذكره (سبحانه).

ولا يقف التفريغ لدى المتصوفة عند "المحو"، فقد نجده في الفناء أيضا، الذي يعني سقوط الأوصاف المذمومة، تمهيدا للبقاء الذي هو قيام الأوصاف المحمودة. ويتم هذا بمعالجة الأخلاق المجبولة والمكتسبة، بحيث يتم نفي الحسد والحقد والبخل والشح والغضب والكبر، وأمثال هذا من رعونات النفس.

أما الفقهاء، فيحدثوننا عن جهاد النفس، الذي هو في نظر محمد بن علي الخروبي، "مخالفة هواها، وإقامة ميزان المحاسبة عليها، واتهامها فيما يبدو من الطاعات، وغير ذلك مما يقتضى من زوالها من أخلاقها الذميمة، وإخراجها من أوصالها الناقصة، وهذا هو الجهاد الأكبر، وأي جهاد من جهاد عدو بين جنبيك لا يفارقك، ولا يحيد عنك، ولا يوافقك، بل يخالفك في كل ما تدعوه إليه من خير عودة عليه، فإذا استعمل العبد الاصطبار، والأذكار، والجهاد، واعتصم بالله (تعالى) بلغ غاية المراد من تصفية النفس، وطهارتها، وقربها من الله (تعالى)، وذلك حسبما ورد في كتابه "الأنس في شرح عيوب النفس".

وترتبط تصفية النفس أيضًا في بعض السياقات الفقهية الإسلامية بأعمال البر، ويبرز هنا ما قاله محمد الساحلي في كتاب "بغية السالك في أشرف المسالك" عن أن هذه المسألة هي "تصفية النفس وتطهيرها بإتلافها من مألوفاتها وإخراجها من هواها، حتى تلحق بعالمها خلية عن الالتفات إلى شيء من متعلقاتها".

وليس بوسعنا أن نفصل تفريغ النفس عن تفريغ القلب، فما يقال في شأنهما موصول، حتى نجد كل منهما قد يحمل محل الآخر في بعض الأدبيات؛ إذ إن القلب المقصود هنا ليس تلك العضلة التي تضخ الدم في الشرايين والأوردة، إنما الصورة المتداولة المعبرة عن العواطف والمشاعر، والتي تؤثر بدورها على أحوال النفس، في سعادتها وشقائها.

ونظرًا لأن للعبد قلبًا واحدًا فإنه لا يجمع بين متناقضين، إنما يجب أن يفرغ من أحدهما، ويمتلئ بالآخر. ففي تفسير القرطبي للآية القرآنية: "ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه"، يقول إنه "لا يجتمع في القلب الكفرُ والإيمان، والهدى والضلال، والإنابة والإصرار".

ويقول ابن قيم الجوزية: "الله (سبحانه) لم يجعلْ لرجلٍ مِن قلبين في جوفه، فَبِقَدْرِ ما يدخل القلب مِن همٍّ وإرادة وحب يخرج منه هَمٌّ وإرادة وحب يُقابله، فهو إناءٌ واحدٌ، والأشربةُ مُتعددة، فأي شرابٍ مَلَأَهُ لم يبقَ فيه موضع لغيره، وإنما يمتلئ الإناءُ بأعلى الأشربة إذا صادفه خاليًا، فأما إذا صادفه مُمتلئًا من غيره لم يساكنه حتى يخرجَ ما فيه ثم يسكن موضعه".

ويقول في موضع آخر: "القلبَ ليس له إلا وجهةٌ واحدة، إذا مال بها إلى جهةٍ لم يَمِلْ إلى غيرها، وليس للعبد قلبان يطيع الله ويتبع أمره ويتوكل عليه بأحدهما، والآخر لغيره، بل ليس له إلا قلبٌ واحد، فإن لم يُفْرِدْ بالتوكل والمحبة والتقوى ربَّه، وإلا انصرف ذلك إلى غيره".

لكن تفريغ النفس ليس سهلا؛ فأغلب الناس يخفقون فيه، إما لجهلهم بأهمية تربية النفوس، أو لازدحام نفوسهم بأمور معقدة ومتضاربة، أو لميلهم إلى الهروب من مواجهة الذات، وعدم امتلاك شجاعة فعل هذا، واستصعاب نيل نفس سوية، وعدم القدرة على البوح، الذي يعني إلقاء ما في النفس من هموم بسبب الاغتراب أو التفلت أو الفاقة، ليحل محلها ما هو نقيضها.

وارتقاء النفس لتصل إلى الموطن السامي، لا يتم فقط بالمعراج الصوفي، إنما بالفلسفة واكتساب المعرفة، وإن كان لا يقدر على هذا سوى الصفوة، وقد تعقد الأمر في ظل تسارع معدلات التطور التقني والمعرفي والحضاري والمعلوماتي؛ إذ بات من الصعوبة بمكان التكيف مع هذا في سهولة ويسر.

إعلان