إعلان

القياس مرتين والقص مرة واحدة..!

د. جمال عبد الجواد

القياس مرتين والقص مرة واحدة..!

د. جمال عبد الجواد
09:01 م الثلاثاء 22 أكتوبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

هذا هو ما يفعله الخياط والنجار الماهر، فقبل أن يقص القماش أو يقطع الخشب، فإنه يقيس الأبعاد مرتين، ويطابقها على التصميم الذي يريد تنفيذه، ليتأكد من التطابق بين التصميم والتنفيذ. النجارون والخياطون يقصون في حذر لأن أخطاء القياس يمكن إصلاحها، أما أخطاء القص والتقطيع فيستحيل إصلاحها، وإذا تم إصلاحها فإن المنتج النهائي يفقد جماله، بعد أن تغطي صفحته التوصيلات والغرز والدعامات، فلا يبدو أبدا كشيء جديد مبهج، وإنما كقطعة قديمة تم "تأييفها".

القياس مرتين والقص مرة واحدة، حكمة بسيطة لكنها تبدو صعبة على فهم كثير من السياسيين والمسئولين التنفيذيين. فتجد الواحد من هؤلاء قد ملأه الغرور، فيظن نفسه وقد أوتي الحكمة، فيندفع ينفذ تصورات نبتت في ذهنه، ويأخذنا معه في مغامرات غير مدروسة، فيصيبنا بالنكد، ويعود هو بالندم، لكن غروره وهيبة مركزه يمنعانه من الاعتذار، فيدخل في سلسلة تبريرات وهرتلات لا تنتهي عن الظروف غير المواتية، وعن الحكمة التي لا نستطيع إدراكها.

هذا هو ما فعله وزير التربية والتعليم في التعديلات التي أدخلها على التعليم الثانوي. لدى الوزير طارق شوقي رؤية سليمة تماما عن عيوب الحفظ والتلقين المتبع في مدارسنا، وضرورة الانتقال إلى نظام يسود فيه الفهم والابتكار. لكن وجود الرؤية لا يساوي وجود خطة؛ فالرؤية هي الهدف النهائي، أو النتيجة المطلوب الوصول إليها، أما الخطة فهي خارطة الطريق التي تنقلنا من كابوس الحفظ والتلقين إلى رحابة الفهم والابتكار؛ وعندما يأتي الأمر للخطة، فإنه يجب القياس مرتين، والقص مرة واحدة.

الخطة هي مجموعة كبيرة متصلة ومتسلسلة من الإجراءات، ويمكن للمشكلات أن تقع وللفشل أن يحدث في أي إجراء أو مرحلة منها؛ وهذا ما حدث مع خطة إصلاح التعليم الثانوي. فقد حدثت المشكلات في توزيع أجهزة التابليت على الطلاب في المواعيد المناسبة؛ وفي إتاحة شبكة الإنترنت في المدارس؛ وفي التأكد من أن النظام يعمل يوم الامتحان؛ وفي تفاصيل كثيرة أخرى.

الرؤية تصور يضعه مسئول واحد يجلس في موقع قيادي، والخطة تصميم تفصيلي يضعه عدد قليل من معاونيه المقتنعين بالرؤية؛ لكن تنفيذ الخطة يحتاج إلى تعاون عدد كبير جدا من الموظفين الكبار والصغار، وفيهم الكثيرون ممن لم يفهموا الرؤية، أو يقتنعوا بالخطة؛ وفيهم أيضا من لهم مصلحة كبيرة، تقدر بمئات الآلاف من الجنيهات، لمنع أي إصلاح، ولإبقاء الأوضاع الكارثية على ما هي عليه.

لكل هذا فإنه لا بد على المسئول أن يقيس مرتين قبل أن ينتقل إلى مرحلة التنفيذ، وعليه أن يتأكد من أن الخطة التنفيذية التي يطبقها ستنجح في تحييد المقاومة، وفي حماية الإصلاح من مؤامرات الفاسدين المستفيدين من الوضع الراهن، لأنه غير مقبول أن يخرج المسئول بعد ظهور العقبات ليتحدث عن نقص الإمكانيات، وعن مؤامرات أصحاب المصالح، وكأن هذه العقبات ظهرت فجأة، مع أنها كانت موجودة ومعروفة طول الوقت.

أقارن ما حدث مع إصلاح التعليم الثانوي بما حدث مع نظام التأمين الصحي الجديد، فأجد أن البدء بتطبيق التأمين الصحي في محافظة بورسعيد الصغيرة هو نوع من القياس مرتين، واختبار صلاحيته للتنفيذ على أرض الواقع، والتعرف على طبيعة المشكلات التي ستترتب على تطبيقه، وكيف يمكن حلها؛ كل ذلك في محافظة واحدة صغيرة، بعيدة عن الأضواء وضغوط الإعلام والرأي العام والسوشيال ميديا.

ألم يكن من الممكن القيام بشيء من هذا مع إصلاح التعليم الثانوي، بدلا من الوضع الراهن الذي تضطر فيه وزارة التربية والتعليم في كل يوم للتراجع عن جزء من النظام الجديد حتى كاد يختفي تماما، وإن لم تختف هموم ومخاوف أولياء الأمور وانتقاداتهم؟! فيما أعداء الإصلاح سعداء بالإخفاق الذي تحقق، والذي كان يمكن تجنبه لو أن المسئول يقيس مرتين قبل الإمساك بالمقص.

إعلان