إعلان

اللآلئ السينمائية تعصف بالمشاعر في فينيسيا الماسي

اللآلئ السينمائية تعصف بالمشاعر في فينيسيا الماسي

د. أمل الجمل
09:00 م الخميس 06 سبتمبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

منذ اليوم الرابع من الدورة الخامسة والسبعين من مهرجان فينيسيا - الممتد من ٢٩ أغسطس وحتى ٨ سبتمبر - وهناك كل يوم، على الأقل، فيلم أو اثنان يعتبران من الجواهر السينمائية بداخل المسابقة الرسمية التي تضم ٢١ فيلماً تشهد منافسة حامية بين مجموعة من روائع السينما. ليثبت لنا مع توالي العروض والمشاهدة الفعلية أن هذه الدورة هى دورة غير عادية ولا يمكن اعتبار وصفها بـ"الاستثنائية" بأنه وصف به مبالغة، بل إنه صادق تماماً، إذ يصعب تكرارها في أي مهرجان آخر، وحتى مهرجان فينيسيا نفسه يصعب أن يتكرر معه الأمر، فهناك تصريح لمدير المهرجان ألبرتو بربرا مفاده أنه كل عشر سنوات يمكن للمرء أن يري مثل هذه المجموعة من الأفلام الاستثنائية.

رغم ما سبق لا يمكن إنكار أن أسلوب المدير الفني للمهرجان وسياسته الذكية لعبت دوراً كبيراً في تشكيل هذه الدورة، وقدرته على جمع كل هذه الأسماء من المخرجين اللامعين، بكل هذا الثراء والتنوع في الموضوعات والجغرافيا والتي تجعلنا نتساءل ماذا سيكون مصير الدورة القادمة من مهرجان كان السينمائي بعد أن استحوذ فينيسيا على كل هذه التحف السينمائية؟!. ذكاء ألبرتو أيضاً جعله يستفيد من أخطاء مهرجان كان وتصرفاته المتغطرسة غير المدروسة - ليس فقط مع الصحفيين وإلغاء العروض الصحفية ولكن أيضاً مما حدث مع شبكة نتفليكس، ولهذا الحديث موقع آخر بعد أن نحكي عن بعض من الأفلام الجميلة.

عند بوابة الأبدية

الرسام الهولندي المثير للجدل فينسنت فان جوج واحد من الأسماء المغرية لكثير من المخرجين فبعد عدد من الأفلام التي صنعت من حوله ظهر في العام الماضي فيلم يعتبر تحفة سينمائية تاريخية يصعب أن نذكر اسم فينسنت دون أن نتذكرها، إنه فيلم "حب فينسنت" للمخرجين دوروتا كوبيلا، وهوج ويلشمان والذي فيه يحاولان فك لغز موته، والتحقيق الفني في ملابسات تلك الحادثة غير المقنعة من زاوية صعوبة تصديق أنه كان انتحاراً، حيث كانت الطلقة في المعدة. وتم من خلال السرد الشيق والجذاب والممتع جدا بصرياً المرور على محطات وشخصيات بحياة فان جوخ، إلى جانب الاستعانة بفريق كبير من الرسامين لإنجاز ٦٥ ألف لوحة تكون إطارا للأحداث.

بفينيسيا أيضاً هذه الدورة شاهدت فيلماً عن فينسنت فان جوخ بعنوان "عند بوابة الأبدية"At the Eternity Gate للمخرج الأمريكي جوليان شنابل، والذي قام ببطولته وليم دافوا بأداء نكاد معه في كثير من اللحظات أن ننسى شخصيته الحقيقية ونصدق أنه جوخ.

يتناول الفيلم الفترة الأخيرة من حياة فان جوخ عندما كان في جنوب فرنسا يحاول أن يرسم هناك، يحاول أن يفهم الطبيعة، يبحث عن سرها الأبدي، يندمج معها، لينسي نفسه ويهرب من أفكاره والأصوات التي تحاصره، واضطرابه العقلي الذي بسببه دخل المصحة النفسية مرتين هناك، لا يمنح الفيلم مساحة كبيرة لعلاقته بأخيه إذ يكتفي بمشهدين فقط لكنهما يعبران عن قوة العلاقة الراسخة والعاطفية بينهما، ودعم ثيو لأخيه مادياً ونفسياً، يهتم الفيلم أيضاً بعلاقته مع جوجان وارتباطه به والنقاشات الحادة المتوترة بينهما، ودعوة جوجان له بأن يرسم ببطء ومن دون تعجل، لكن فينسنت يري أن الانتهاء بسرعة يريحه نفسيا وعقلياً، وعندما يخبره بعودته إلى باريس ليكون قريباً من الجمهور والناس بعد أن أصبح مشهوراً يصاب فينسنت بأزمة نفسية حادة ويقطع أذنه ليرسلها هدية إلى جوجان لعله يتراجع عن قراره، وهو الأمر الذي يزيد الحياة سوءا معه ويعجل بدخوله المصحة.

التصوير بالفيلم أحد جوانبه الخلابة، فقد عصف المخرج بمشاعرنا عندما قام بتصوير وليم دافو وكأنه جزء من الطبيعة لا ينفصل عنها في كثير من الأحيان، جعلنا أيضاً - وبسبب زوايا التصوير وحركة الكاميرا - نتماهى مع الطبيعة وحقولها وأشجارها التي يطوح بها الهواء. كذلك عمله على "تراك" الصوت في محاولة منه لتجسيد ذلك الاضطراب العقلي الذي كان ينتاب فينسنت في بعض اللحظات خصوصا عندما يتعرض للخوف، وهو ما يتبدى بوضوح بعد صدمة رحيل جوجان.

سيناريو الفيلم الذي يمسك بأنفاسنا - والممتع بصرياً - زاخر بالحوارات الخصبة المغرية الآخاذة والمثيرة للإعجاب حول الفن، والله والدين، والمسيح، وغربة الفنان، حول كيف أنه من المحتمل أن فان جوخ جاء في التوقيت الخطأ، جاء لجمهور لم يكن قد خُلق بعد. الحقيقة أن حوارات الفيلم يمكن تدريسها وسماعها أكثر من مرة باستمتاع وبهجة كبيرة.

توالي التحف السينمائية

من بين التحف السينمائية التي توالت في الأيام الماضية والتي تندرج ضمن الـ٢١ فيلما التي تتنافس على جائزة الأسد الذهبي بقوة - فإلي جانب "أنشودة باستر سكروجز" للأخوين كوين و"المفضلة" للمخرج لانثيموس، هناك "شقيقا الأخوات" للمخرج الفرنسي جاك آودريارد في تجربة جديدة على عالمه حيث يسرقنا بإبداعه المرهف، برشاقتة اللافتة، وإن بعذوبة وقسوة في آن واحد إلي عالم الويسترن والكاوبوي، ليطرح تساؤلات عن المصير الإنساني والوجود، ثم تأتي تحفة "ساسبيريا" التي يمكن أن نتحفظ على بعض تفاصيلها لكنها في النهاية عمل قوي آخر عن الفن والقهر.

أما الفيلم الألماني "لا تنظر بعيداً أبداً" never look away والمعنى الأدق وفق أحداث الفيلم لا تُبعد نظرك أبداً عن الأشياء الحقيقية الصحيحة لأنها جميلة، فأعتبره واحداً من أقوى الأعمال السينمائية فرغم أنه يتجاوز الثلاث ساعات لم أشعر بالوقت وكنت أتمنى ألا ينتهي الفيلم أبداً، وهو يستحق مقالًا خاصًا به خصوصا أنه من توقيع الألماني فلوريان هينكل فون دونرسمارك صاحب التحفة السينمائية عن سلطة القهر وتعذيب الفنان المعنون بــ"حيوات الآخرين.

"غروب"

Sunset "الغروب" هو عنوان فيلم المخرج المجري لازلو نيمس الذي عصف بشواطئ الريفيرا قبل ثلاثة أعوام بأول أفلامه الروائية "ابن شاؤل" وحصد عنه الجائزة الكبرى للمهرجان ثم الأوسكار.

هنا بفيلمه الأحدث "غروب" يعود لازلو إلى أوروبا في بداية القرن الماضي وتحديدا عشية الحرب العالمية الأولى، ففي عام ١٩١٣ تعود إلى بودابست فتاة شابة نحيفة تمتلك في عينيها إرادة العالم وإصراره، تعود إلي محل والدها "لايتر" ذلك المحل الشهير الذي بلغت سمعته الأرجاء في تصميم القبعات الملكية والراقية، لكن الجميع كانوا يكرهون المحل ويشعرون معه بالرهبة ويريدونه أن يختفي. والدا الفتاة توفياً في الحريق الضخم الذي نشب في المحل بينما كان عمرها سنتين فقط، الآن هى شابة يافعة جاءت للمكان مجدداً بعد أن قرأت إعلان عن وظيفة به، عندما تعلن عن هويتها تسبب صدمة وفزعاً للآخرين الذين يحاولون إبعادها وإعادتها إلي حيث كانت عندما تم تهريبها صغيرة لتفلت من تلك المجازر.

رحلة البحث الجهنمية التي تنغمس فيها الفتاة تقودها لمعرفة أن لها أخاً، واسمه يصاحبه رهبة وخوف كبير يصل لحد الفزع، والذعر. الكثيرون يحذرونها من عدم البحث عنه، وعدم الذهاب إلي مكانه، لكنها كمن يقودها مصيرها وقدرها لا تبالي بأحد، ولا أحد أيضاً قادر على أن يمنعها.

قوة الفيلم ليس فقط في القصة التاريخية التي قد ترمز إلى مأزق الحضارة الأوروبية التي بعد أن بلغت كل هذا التقدم والازدهار أخذت تتهاوى وتخوض الحروب الكبرى، ولكن قوته تكمن أيضاً في تصويره الحشود والأفراد، وجعلها - أي الحشود - في أحيانٍ كثيرة فقط صورة ضبابية تؤطر وجه البطلة وجسدها، أو تؤطر المكان الذي تسير فيها الفتاة الشابة. تكمن قوته في السرد الرشيق المعبر عن مخاطر العنف والانخراط في سلسلة الدم الجهنمية التي تجعل الإنسان بعد أن كان يبحث عن أخيه ليحتضنه يجد نفسه فجأة مع إنسان غريب لن يتورع عن قتله بجنون ليحمي نفسه. تكمن قوته كذلك في رسم الشخصيات الغامضة التي تبدو كلماتها وكأنها تحمل معانى ملتبسة، وفي المونتاج الذي يقفز بانسيابية وقوة بين الأماكن والشخصيات فعندما تصر الفتاة الشابة على الذهاب إلي مكان ما ممنوع عليها نحن لا نرى - في أغلب تلك المشاهد - كيف خاضت تلك العقبات وتجاوزت كل ما هو ممنوع، وكيف لم ينجح حراسها في منعها، أحياناً كثيرة نراها وقد وصلت إلى غايتها، أو وهى في الطريق إلى غايتها، بإصرار في عينيها يحجب عنها عدم تصديق قدراتها الخارقة، ويجعلنا نحبس أنفاسنا على مدار ساعتين وربع الساعة من دون أن نشعر بالوقت.

إعلان