إعلان

الإرهابي ما بين الجنون والعقل

الإرهابي ما بين الجنون والعقل

د. براءة جاسم
09:06 م الأحد 19 نوفمبر 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

شيوعُ الإرهابِ أمرٌ يشغلُ اهتمامًا كبيرًا على الصعيدِ العالميّ منذ السنوات الأولى للقرن الحادي والعشرين. بذورُ ذعرٍ وترويعٍ يسعى الإرهابيون من خلال عملياتهم إلى زرعِها في نفوسِ البشر لتنموَ وتُنبتَ خوفًا يجرّدُهُم من نعمةِ الأمان خاصّة أن التنبؤ بها يعد أمرًا مستحيلًا. وتزايدت حوادثُ التفجيرِ والقتلِ والدهسِ العشوائيّ لمدنيينَ وشرطييّن وعسكريينَ في الآونةِ الأخيرةِ في مناطقَ مختلفةٍ من العالمِ بشكلٍ يجعلنا لا نستبعدُ مكانًا ولا زمانًا. 

ما بين الإشادةِ والنقدِ، تأرجحت الآراءُ حولَ لقاءٍ تلفزيونيٍ أجراه الإعلاميُّ الكبير عماد الدين أديب مع أحدِ منفذي العملياتِ الإرهابية، ولستُ بصددِ الإشادة أو النقدِ للّقاءِ أو النظرِ إليهِ باعتباره سبقًا إعلاميًا، فليس هذا ما يشغلُني، لكن ما أراه – من وجهةِ نظري – جديرًا بالنظرِ والتأملِ والبحثِ هو أن لقاءً كهذا عادة يُعدُّ فرصةً حقيقيةً هي بمثابةِ قطعة جديدة في أحجيةٍ تكمل صورةً لفهم هؤلاء الأشخاص بشكل أكبر، فالإرهابي أو الاستشهادي أو الانتحاري - باختلاف المسميات كلٌّ بحسَب ما يراه - لا يخضعُ عادةً لدراسة علمية تُمكّن المتخصصين من فهم بعض الأمور الشائكة، فالقيام بدراسة كهذه يُعدُّ أمرًا مستحيلًا إلا إذا تم القبضُ عليهم قبل تنفيذ العملية ثم أُجرِيَت دراسات وافية. ولذلك يعتمدُ المتخصصون على التحليل بناءً على ما يُتاح لهم من معطيات ومعلومات سواءً كان ذلك من خلال لقاءات مع الأهل أو الأصدقاء أو من خلال معلومات تكشفُ عنها الجهات الأمنية أو الإعلامية باختلاف مدى صحتها.

ذكرت مقالةٌ في الطبِّ النفسي صادرةٌ في عام ٢٠٠٩ عنوانها "سيكولوجية الانتحار الإرهابي" لعدةِ باحثين، أن قادةَ هؤلاء الأشخاص يستخدمون إيمانهم بقضية ما كوسيلةٍ لتحميسهم للتضحيةِ بأرواحهم من أجلها من خلال عمليةٍ تحمل وجهًا آخر يخدم مصلحة هؤلاء القادة. وعلى جانب آخر، جاءت دراساتٌ تتحدى هذه الفكرة، فالدراساتُ القليلةُ التي أجرِيت على من قُبِض عليهم قبل تنفيذِ عملياتهم وجدت لديهم ميولًا انتحاريةً واكتئابيةً ومحاولاتٍ انتحارية سابقة غير إرهابية. 

في عام 2015، طرحَت مقالةٌ للكاتب آدم لانكفورد عنوانها "ما لا تفهمه حول الهجمات الانتحارية"، أكثر من تساؤلٍ على سبيل المثالِ لا الحصر، هل من يقومُ بهذه العمليات مجردُ "منتحرٍ" أراد التخلصَ من حياته، أم أنه مؤمنٌ بقضية ومستعدٌ "للاستشهاد" من أجلها؟ ومن بين حالات بعض الإرهابيين الذين عاشوا في أمريكا، كان "محمد يوسف عبد العزيز"، منفذُ إحدى العمليات في عام ٢٠١٥، مصابًا باضطرابٍ ثنائيّ القطب ويعاني من الإدمان، هذا فضلًا عن كتاباتٍ تركها كان يعبر فيها عن رغبته في الانتحار قبل العملية بعامين تقريبًا، ومما ذُكرَ أيضا أنه كان قد أخبرَ صديقَه بأنه يعتقدُ بأن داعشَ منظمةٌ بلهاء معاديةٌ للإسلام، ولكن كما ذكرَ المقالُ أن الانتحارَ في الدين الإسلاميّ محرمٌ ويغضب الله، فقد لجأ "محمد يوسف عبد العزيز" إلى القيامِ بالعملية الإرهابية اقتناعًا منه بأنه بذلك لا يقومُ بشيءٍ محرمٍ كالانتحار، حيث كان يمتلك أكثر من سلاحٍ فأطلق الرصاصَ على ضحاياه وهو مدركٌ بأنّ ذلك سيؤدي لقتلِه، وهذا بالفعل ما منحه إياهُ قاتِلُه حين قام بتحقيقِ رغبة محمد في الموت. لا أستطيع عزيزي القارئ إلا أن أتوقف عند فكرة أن هذا الإرهابي بحسب عدة مصادر كان "يؤمن" أن الانتحار "حرام" ولكنه استحلّ قتل النفسِ! حادثةٌ كهذه تشير إلى أن صاحبَها يعاني خللًا نفسيًا وخلطًا غير منطقي بين عدد من المفاهيم زُرِعت في رأسِه على أيدي قادة جماعته استغلالًا لرغبته في الموت. 

وعلى عكس ذلك، حدث مع "نضال حسن" منفذ عملية "فورت هود" أن تم إطلاقُ الرصاصِ على عَمودِه الفقري فلم يمت بل أصيب بالشلل، ومن عجبٍ أنه بذل كل جهدٍ من أجلِ إضعاف موقفه قضائيًا للوصول إلى حكم بالإعدام تحقيقًا لرغبته في التخلصِ من حياته، من خلال هذا المثال أيضًا نجدُ أنّ الرغبةَ في التخلصِ من الحياة عاملٌ مشترك بين كثيرٍ من الحالات آخرُها ما سمعناه من حديثِ منفذ عملية الواحات في لقائه مع الأستاذ عماد الدين أديب. وبالعودة إلى المقال، يقترح الكاتبُ أن عدمَ قتلِ هؤلاء وإبقائهم على قيد الحياة قد يدفعهم إلى إعادة النظرِ في عملياتِهم ومدى صحةِ دوافعِهم. غير أني أرى أن ذلك قد يكونُ صعبًا لأن قتلهم قد يكون الطريقةَ الوحيدةَ لمنع سقوط المزيد من الضحايا، فضلًا عن أنّ أغلبَ العملياتِ الإرهابية يقومُ منفذوها بتفجيرِ أنفسِهم. 

وفي بحث للدكتور النفسي "دايفيد ليستر" تحت عنوان "نساء انتحاريات" اعتمد فيه على عدد من المقالات بلغ حوالي ست وسبعين مقالةً نُشرت في النيويورك تايمز عن الانتحاريات، وقد وجدَ أوجُهًا للتشابه بين دوافع المنتحر بمفرده والمنتحرين جماعيًا دون عنف تجاه غيرهم، والانتحاريين الإرهابيين - كما وصفهم - فكان من تلك الدوافع المشتركة التي ذكرها، اضطرابُ ما بعد الصدمة وانعدامُ الهدف من الحياة واليأس والاكتئاب.

ويذكُر أيضًا "كريمر" في مقاله في النيويورك تايمز في عام ٢٠١٠ بعنوان "أهل موسكو ومخاوفهم من معاودة زيارة الأرامل" أنه لم يكن السبب واحدًا لتحوُّل بعض سيدات الشيشان إلى انتحاريات، بل كانت عدة أسباب، من أبرزِها التعرضُ لأحداث صادمة كقتل أبنائهنّ أو أزواجهنّ أو تعرضهنّ للاغتصاب من قِبَل القوات الروسية، بينما يدّعي الجانب الروسي أن هؤلاء الانتحاريات عادةً ما يكُنّ تحت تأثير المخدر.

كذلك فقد سبق أن كُتِبَ عن الانتحاريات العراقيات أنهن مصاباتٍ بمرض الانفصام أو متأخراتٍ عقليًا، إلا أن الدراسات أثبتت بعد ذلك عدم صحة تلك الادّعاءات.

لا شكَّ أن حقيقة هؤلاء الأشخاص موضوع في غاية التعقيد، فلم يعُد من المنطقي أو المُجدي أن نُبسّط من حالات كهذه يذهبُ ضحيتها الكبيرُ والصغير، ثم نأتي فنقول إنّ منفذّيها مجرد "مجانين"؛ ذلك أن الدراسات قد خلُصَت إلى أن وصفَ سلوك منفذي العمليات الانتحارية "بالجنون" وبأنهم مجرد مرضى عقليًا ليس أكثرَ من تفسيرٍ سطحيّ في وقتٍ نحتاجُ فيه كبشر إلى إجابات أكثر عُمقًا عن أسئلة تصعُبُ الإجابةُ عليها، فنظن أننا قد تخلّصنا بذلك من عبءِ البحث، ثم ننخدعُ بإحساسٍ مؤقتٍ بالراحة ما يلبث أن يتحولَ لغضب، خاصة من قِبَل من تأذوا من حدثٍ جلل كهذا، أضف إلى ذلك أن وصفًا "بالجنون" يجعل من الجاني ضحيةً لمرضه فيُخليه بذلك من مسؤولية جريمته. وبالتالي فلا يمكننا أن نقطعَ بالحكم بكونهم مرضى عقلياً، إلا إذا ثبتَ ذلك بالكشف والتحقيق.

وتتباين الآراء بين من يعتقد أن هؤلاء ليسوا مرضى عقليًا، لأن نعتَهُم بالمرضى يعني أنهم غير مسؤولين عن أفعالهم وعلينا التعاطف معهم، ومن يرى بأننا لو نظرنا إليهم كمرضى نفسيًا فقد نتمكن من مساعدتهم وعلاجهم نفسيًا قبل أن يصلوا إلى هذه المرحلة. أرى أنه ليس من الصوابِ وضع جميع هؤلاء -على اختلاف ظروفهم ودوافعهم- تحت نفس المظلة، فكل حالة يجب تحليلها على حدة للوصول للخطوط العريضة لتركيباتهم النفسية. الأمر كما ذكرت معقدٌ بشكل كبير، لكني حاولتُ من خلالِ هذا المقالِ أن ألمسَ بعض قشوره وأمرّ به مرور الكرامِ باستعراضِ بعض مجرياتِ الأحداثِ والآراءِ باختصارِ وتبسيط، لأن تحليلَ أمرٍ كهذا على وجهِ التفصيل يحتاج لبحث مطول.

إعلان