إعلان

"الفرص الثانية" التي فقدها ضحايا هجوم نيوزيلندا

10:16 ص السبت 23 مارس 2019

نيوزيلندا

لندن (بي بي سي)

تعكس قصص ضحايا هجوم كرايست تشيرتش أزمة عالمية، تتعلق بالحرب والفقر وغياب العدالة الاقتصادية.

وظن الكثيرون أنهم وجدوا في نيوزيلندا مأوى بعيد وآمن، في آخر بقاع الأرض، يمكنهم بدء حياتهم من جديد فيه. لكن هذه الصورة تغيرت يوم الجمعة الماضي، عندما فتح مسلح النار داخل المسجدين.

ويقول مظهر الدين سيد أحمد، أحد الناجين: "كنت سعيدا بعثوري على بلد جميل أربي فيه أبنائي... الحادث آلمني بشدة".

وبعد مرور أسبوع على الهجوم، ترسل بلدة كرايست تشيرتش رسالة مفادها وحدتهم كمجتمع. وفتح الهجوم عيون الكثيرين على مدى تنوع وتعقيد مجتمعهم، وهو ما لم يلحظوه من قبل.

كذلك اعتُبر الحادث إنذارا على قدرة الكراهية على التراكم والانفجار، ونظرة أقرب إلى قصص الضحايا وكيف أن حياتهم كانت دائما هشة.

"الهروب من الموت"

كان خالد حمزة، 44 عاما، وابنه حمزة، 16 عاما، لاجئين. فرا من الحرب في سوريا مع ثلاثة أفراد آخرين من أسرتهم.

عاشت الأسرة في الأردن لفترة في البداية، حتى قُبلوا في برنامج نيوزيلندا لإعادة توطين اللاجئين.

1

وظنت الأسرة أن نيوزيلندا بلدا آمنا، لكن خالد وحمزة قتلا في مسجد النور قبل مرور عام على وصولهما إلى البلاد.

ويقول أبو علي، سوري انتقل إلى نيوزيلندا عام 1990، إنه التقى الأسرة مرة واحدة فقط، وكانوا "سعداء بحياتهم الجديدة... لكنهم هربوا من الموت ليموتوا هنا".

وكان شقيق حمزة الأصغر، زياد، في المسجد وقت الحادث، لكنه نجا وخضع لجراحة إثر إصابته. وحضر حمزة جنازة والده وشقيقه يوم الأربعاء على كرسي متحرك. وسمعه الحضور يتمتم قرب قبرهما "كان يجب أن أكون راقدا بجواركما، لا واقفا أمامكما."

2

ويقول أبو علي إن الحادث كان ضربة قاصمة للسوريين في البلاد. "لكن بعد الدعم الذي لقيناه من الشعب النيوزيلندي، وكذلك المسيحيين في البلاد، صدقني قد نسينا مشكلتنا."

عاش ليحقق حلمها

عاشت آنسي أليبافا، 24 عاما، حياة صعبة حتى وصلت إلى نيوزيلندا.

ولدت في مدينة كيرالا في الهند، لأسرة بسيطة. وتوفي والدها في المملكة العربية السعودية، حيث كان يعمل، فوجدت نفسها مسؤولة عن أسرة وهي بعمر الثامنة عشر.

ويقول زوجها، عبدالناظر، إنه انبهر عند لقاءه بها لأول مرة "بالدعم الذي كانت تقدمه للجميع".

3

وهاجر الزوجان من الهند العام الماضي، ليلاحقا حلمهما بالدراسة والسفر. وقال إن طموحه في الحياة كان أن يحقق أحلامها.

واستطاع الزوجان توفير نفقات السفر إلى نيوزيلندا بعدما رهن والد عبدالناظر منزله. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يغادر فيها الزوجان بلدتهما. وكان الزوجان يعولان أسرتيهما بعد عثورهما على وظائف في كرايست تشيرتش.

وقال عبدالناظر إن زوجته أحبت دراستها، في جامعة لينكولن، حيث كانت تدرس درجة الماجستير في الهندسة الزراعية. وكانت قد بدأت تدريبا لتوها وقت وقوع الهجوم.

وكان يحكي لابن عمه، فهد إسماعيل بوناث، عن الذكريات الجميلة التي يجلبها الحرم الجامعي، والغرف التي جلس فيها مع آنسي، والطرق التي مشوا فيها.

وذهب الزوجان إلى مسجد النور يوم الجمعة الماضي، ليتخذ كل منهما طريقه إلى مصلى الرجال والسيدات.

3

وعند فتح النيران، خرج عبدالناظر من المسجد وقفز عبر السور إلى بيت مجاور. ولم يسمح له صاحب البيت بالدخول في البداية "فربما ظن أنني إرهابي".

وغادر بوناث المنزل سريعا ليبحث عن زوجته، فوجدها راقدة بلا حراك في الشارع. وجرى نحوها، وظل يناديها، لكن الناجين أخبروه أنها قتلت.

ثم أتت الشرطة، فأبعدت الجميع، بمن فيهم الزوج، عن موقع الحادث.

ويقول عبدالناظر، 34 عاما، بإنجليزية ركيكة إن زوجته "كانت شخصية محبوبة. وشديدة الطيبة".

وتابع: "كانت تحب الجميع؛ الأقارب والأصدقاء. وكانت العائلة ببالها دائما، خاصة والدي ووالدتي وإخوتي."

ولا يعرف عبدالناظر إن كان سيبقى في نيوزيلندا، لكن الأرجح أنه لن يغادر بسبب التزاماته نحو عائلته وعائلة زوجته الراحلة، التي لم يعد لها عائل آخر.

'"زوجي... الرجل المحبوب"

تكدست باقات الزهور أمام محل للوجبات السريعة امتلكه محمد عمران خان، يقدم المشويات الهندية.

وقتل خان، الذي يعرفه أصدقاءه بـ عمران بهاي، في مسجد لينوود.

4

وكان الرجل ذو الأصول الهندية أحد الشخصيات المحبوبة في كرايست تشيرتش.

وتقول زوجته ترايسي: "وصلتني كمية هائلة من الرسائل والاتصالات من أشخاص لا أعرفهم، ما يدل على أنه كان رجلا محبوبا."

وتابعت: "أعرف أن الناس يحبونه، لكن لم أتصور أنهم أحبوه لهذا الحد. وكان معروفا في البلدة بطيبة قلبه وتضحيته بوقته وكل شيء لأجل الناس."

وينصب اهتمام الزوجة على رعاية ابنها الشاب وأقارب زوجها، الذين توافدوا من جميع أنحاء العالم. "فالأمر شديد الصعوبة أن يسمعوا الأخبار على الجانب الآخر من العالم بدون أي معلومات."

'"هذا البلد آمن"

قضى مظهر الدين سيد أحمد أغلب حياته في بلده، الهند، وفي السعودية. ويقول إنه "لا يمكن مقارنة" الأمان والاحتواء الذي وفرته نيوزيلندا عندما وفد إليها أول مرة.

5

وكان يقول لأصدقائه "أنتم تخافون بشدة من الذهاب إلى المطار. لكن هنا (في نيوزيلندا)، نحب المطار، فهو رحلة جميلة، لأن البلد آمن."

ويقول سيد أحمد إن مسجد لينوود بمثابة وطن لمجتمع صغير ومترابط، "فنحن نحب زيارة المسجد يوم الجمعة، وكنا نصلي".

وما زال في حالة صدمة وعدم تصديق لما حدث له ولأصدقائه في البلد الذي اعتبره الأعظم على الأرض.

ويقول سيد أحمد إنه تجمد في مكانه عندما سمع ثلاث طلقات نارية تخترق صوت صلاة الجمعة.

6

واستمر الناس في الصلاة لبرهة، "لكن أذنيّ كانتا تتابعان الصوت... هناك شيء ما يحدث". ثم سمع صياح رجل يقول "استتروا، استتروا... تحركوا، تحركوا، تحركوا."

ورغم سماعه الطلقات، جرى باتجاه الباب الرئيسي - لسبب لا يعلمه حتى الآن - واتخذ ساترا داخل مخزن مجاور للباب الذي دخل منه المهاجم.

ويقول سيد أحمد إن مصلٍ آخر، يُدعى عبدالعزيز، أنقذه بمحاولته ضرب المهاجم بآلة الدفع ببطاقات الائتمان.

"وكان صديقي على مرمى البصر. ورأيت بقعة دم كبيرة على الحائط، فأدركت أنه مات هناك."

'"شخصية متمردة"

وبشكل عام، بدأ الضحايا حياتهم خارج نيوزيلندا، في جنوب آسيا، والشرق الأوسط، والصومال، وفيجي، وماليزيا، وأندونيسيا.

أما ليندا أرمسترونغ، 64 عاما، فهي نيوزيلندية عاشت حياة غير عادية، على حد وصف كايرون غوس، أحد أبناء أشقائها.

وفي مرحلة ما من حياتها، كانت "متمردة قليلا". وعاشت في جزيرة وايهيكي قرب مدينة أوكلاند حيث نشأت، " في كوخ صغير وسط الشجيرات، به مرحاض ورشاش للاستحمام فقط."

وفي أوقات أخرى، استقرت في الدور المخصصة لكبار السن، وقادت دراجة بخارية، وسافرت لمسافات كبيرة، حتى أنها عاشت لفترة في برلين.

وبعد شغف دائم، تعرفت إلى الإسلام في عام 2011، بعد تطوعها في مركز للاجئين في أوكلاند، واختلاطها بالناس هناك.

ويقول غوس: "أرادت أن تعرف لم؟ وماذا تعتقدون؟ وكلما عرفت عن الإسلام كانت تقول لي "إنهم أناس شديدي اللطف، وهذا الدين يناسبني جدا."

ووصف عمته بأنها "شخصية متمردة قليلا"، كانت دائمة التمرد وعنيدة إلى حد ما.

وكانت صلابة رأيها تنعكس على حضورها في المسجد. وبعد نقاش مع أحد الأقارب الشباب، أظهرت استيائها فيما يتعلق بالمخلفات البلاستيكية، فاشترت للجميع أطباقا يمكن إعادة استعمالها.

7

ولم يكن لديها الكثير من المال، لكنها كانت سخية. ورغم اعتمادها على الإعانات الحكومية، إلا أنها بدأت بالتبرع بخمسين دولار نيوزيلندي شهريا لأسرة لاجئة من سوريا.

ويقول غوس إنها "لم تلتق بهذه الأسرة أبدا. لكنها سمعت عنها، وفكرت فيما يمكن أن تقدمه لها."

ولم تكن أرمسترونغ في كامل صحتها، لذا كانت تجلس في آخر المسجد عندما وقع الهجوم. لكن هذا لم يمنعها عن التحرك سريعا لحماية الآخرين.

وقال غوس لـ بي بي سي إن أرمسترونغ "ألقت بنفسها أمام إحدى صديقاتها، وتلقت الرصاصة، ثم ماتت بين ذراعي الصديقة والإمام واقف يلقنها الشهادة. ونحن فخورون بأنها كانت هذه الشخصية."

"أخونا مفقود"

ويقارن سكان كرايست تشيرتش الهجوم الأخير وصدمة المجتمع حيالها بالزلزال الذي ضرب البلدة عام 2001، وتسبب في مقتل 185 شخصا.

ويقول الكثيرون إن الألم مشابه، وإن كان الألم الذي سببه الهجوم بفعل شخص ما، وضد مجموعة ما.

ويمكن إعادة بناء المدن بعد تدميرها، وهو علاج ملموس لهذا النوع من الجراح.

وكان زكريا بويا، أحد ضحايا الهجوم، جزءا من عملية إعادة البناء من قبل. وانتقل إلى كرايست تشيرتش من بنغلاديش للعمل في إعادة الإعمار بعد الزلزال، حسبما ذكر النادي الاجتماعي والثقافي الهندي.

وكان بويا، عامل اللحام، في إجازة يوم الجمعة للاحتفال بعيد ميلاده الثالث والثلاثين مع أصدقائه في مسجد النور.

وقال صاحب العمل إنه "عاش على الكفاف ليتمكن من إرسال بعض المال لأسرته". وكان قد ترك زوجته، رينا أكتر، في بنغلاديش.

ولم يكن له عائلة في كرايست تشيرتش. وعلى مدار أيام، حاول فيها المسؤولون التعرف على جثته، كان أصدقاؤه ينظمون وقفة احتجاجية صغيرة أمام المسجد.

وحمل المحتجون لافتة كُتب عليها "أخونا مفقود، اعطونا بعض المعلومات".

"حوّل مسار حياتي"

وفي تلك البلدة، التي يبلغ عدد سكانها 400 ألف، يبدو وكأن كل شخص يعرف أحد الضحايا، أو يعرف شخصا على صلة بأحد الضحايا.

ويقول بيتر هيغينز، 67 عاما، إن طبيب القلب أمجد حامد أقنعه بالتقاعد بعد تعرضه لأزمة قلبية ومضاعفاتها.

8

ويقول عن حامد إنه "حوّل مسار حياتي... وقد أصابه الرصاص. أفكر في عدد الناس الذين أنقذ حياتهم. في حين قرر شخص ما اللعب ببندقية."

وحامد، البالغ من العمر 57 عاما، هو فلسطيني هاجر إلى نيوزيلندا منذ عقود.

ودفعت هذه المأساة الكثيرين لإعادة النظر فيما يتعلق بالجالية المسلمة في المدينة.

وتقول كلير نيدهام، 72 عاما، إن أول من تعرفت عليه السلطات من الضحايا، ويُدعى داوود نابي، كان يزور محل التبرعات الذي تطوعت فيه بشكل مستمر، وكان يتفحص المعروضات.

وكان نابي، 70 عاما، يحدثها عن حبه الشديد لحفيده. ولم تعرف بقدره بين أفراد الجالية المسلمة إلا هذا الأسبوع، بعد أن قُتل في الهجوم.

ولد نابي في أفغانستان، لكنه يعيش في نيوزيلندا منذ فترة طويلة. وكان رئيس الرابطة الأفغانية المحلية، ويُعرف عنه دعمه لمجموعات المهاجرين الأخرى.

أما دايف بالمر، أحد من حضروا مراسم التأبين، دُهش للتسامح الذي أبداه فريد أحمد، الذي قُتلت زوجته في الهجوم، لكنه قال للصحفيين إنه سامح المهاجم.

وقال بالمر: "فكرت، كمسيحي، إن كنت أقدر على مثل هذا التصرف. هذا الأمر يتطلب قدرا هائلا من القوة والشجاعة."

ومظاهر التسامح التي تجسدت في فريد أحمد وليندا أرمسترونغ هي النقيض لما فعله المهاجم والمجموعات الإلكترونية التي نشرت الفيديو الذي بثه للهجوم.

واتُهم برينتون تارانت، 28 عاما الذي يقول عن نفسه إنه مؤمن بسيادة العرق الأبيض، بالقتل العمد.

وبث المهاجم المجزرة عبر فيسبوك، ونشر شخص ما (يُعتقد أنه تارانت) ملفا من 65 ألف كلمة، ذكر فيها أسباب الهجوم.

وأشار البعض إلى أن الملف مليء بالشفرات التي تخص مجموعات افتراضية يمينية متشددة. ويُظهر الأمر مدى سهولة وسرعة انتشار الكراهية والضغينة في العالم الافتراضي، على عكس الواقع حيث يتطلب انتشار التسامح تراكمات عبر الزمن.

وفي النهاية، تطلب الأمر 17 دقيقة هاجم خلالها رجل واحد المسجد، ليقضي على حياة العشرات من الذين كانوا يحلمون بفرصة ثانية.

وبرزت تساؤلات بعد الهجوم، حول الحاجة لمراقبة المواقع الإلكترونية للوقوف على مصادر التطرف. لكن الخبراء يقولون إن هذا الأمر بالغ الصعوبة لعدة أسباب، أولها العدد الكبير من المنشورات.

وبحسب أنجم رحمان، من المجلس الإسلامي للمرأة في نيوزيلندا، فقد طالبت الحكومات المتعاقبة بمواجهة التمييز، وقالت: "عبرنا عن مخاوفنا بشأن صعود اليمين المتطرف. ولم تتجاوب الحكومة بشكل مناسب مع هذه المخاوف".

كما وجهت رحمان انتقادات لاذعة للإعلام، إذ تقول إنه لم يكن هناك تدقيق كافٍ حول العالم.

لكن بول هانت، رئيس مفوضية حقوق الإنسان في نيوزيلندا، يقول إن البلد يتمتع بواحد من أفضل سجلات حقوق الإنسان حول العالم، رغم وجود بعض نزعات الإسلاموفوبيا، والتمييز العرقي، وجرائم الكراهية "في بعض قطاعات المجتمع".

"اختيار خاطيء للمكان"

لقد أثبتت التجربة فشل المهاجم، الذي أقسمت رئيسة الوزراء جاسيندا أردرن ألا تنطق اسمه، في شق الصف في البلاد.

وأعلنت أردرن يوم الخميس عددا من التعديلات الواسعة لقوانين حيازة السلاح، تشمل منع الأسلحة التي استخدمها المهاجم.

وعلى عكس الولايات المتحدة على سبيل المثال، بادر البعض بالتخلي عن أسلحتهم حتى قبل إقرار الحظر الجديد.

10

ويؤكد المحليون على عزمهم اتخاذ كل ما يلزم لضمان عدم تكرار هذه المأساة.

وتقول كارا باتلر، 38 عاما: "أحاول التعامل مع الحزن والغضب. كيف جرؤ على أن يفعل هذا بنا؟ لكنني أعتقد أنه أساء اختيار المكان. أعتقد أنه سيجد عكس ما كان يظن. لن يخلق الفرقة، بل سيخلق المزيد من الترابط والإحساس بوحدة المجتمع."

ويقول سيد أحمد، أحد الناجين، إن ولديه "متشبعان بالقيم النيوزيلندية. وأنا سعيد بهذا الأمر."

لكنه يخشى عليهما، ويقول إن كل الدول، وليس نيوزيلندا فقط، يجب ألا تصبح عدائية.

ويقول: "الآن، أرى أن الناس يمكنهم القدوم لأبعد بقعة في الأرض، وأكثرها سلمية."

وتابع: "لا يمكن أن يحدث مثل هذا الهجوم في هذا البلد. لا يمكن التعامل معه كأي حادث آخر. سنسافر إلى الفضاء لو تطلب الأمر، لكن هل تصبح الأحياء حيث نسكن خطرا على أطفالنا؟ إنها مسؤولية الجميع لمواجهة هذه الكراهية."

هذا المحتوى من

فيديو قد يعجبك: