إعلان

امتحان كورونا

د. محمود الهواري

امتحان كورونا

09:56 م السبت 28 مارس 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بقلم د. محمود الهواري:

يبدو أنَّ الكرة الأرضيَّة لم تفهم الرِّسالة بعد؛ إذ عاشت في أثرة وأنانيَّة كما تملي عليها الأهواء والشَّهوات، في غياب عن المقاصد الإنسانيَّة الرَّاقية الَّتي يمكن أن تشمل النَّاس جميعًا.

عاشت الدُّول على تصنيف غريب مخترع، جعل بعضها دولًا عظمى، وبعضها من العالم الثَّالث، وبعضها من العالم الأوَّل، لكنَّ هذا الفيروس المستجدّ لم يعجبه هذا التَّقسيم، ولم تمنعه هذه الحدود المصطنعة بين بني الإنسان، فغزا الجميع بلا استثناء!

ولم يعد بمقدور دولة مهما ادَّعت العظمة والقوَّة أن تغلق أبوابها وحدودها دون الفيروس، ولم يعد بمقدور إنسان مهما كانت زعامته أن يدَّعي أنَّه بمنجاة من هذا المخلوق الضَّئيل الصَّغير من أن يغزو صدره ورئتيه!

لقد وضع هذا الفيروس الصَّغير البشريَّة أمام خيار واحد لا ثاني له، وهو ما أعلنه القرآن الكريم في قول الله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبيرٌ».

ولم يبق أمام البشريَّة إلا أن ترجع –على الأقلِّ- إلى هذه الأخوَّة الإنسانيَّة الَّتي نادى بها الإسلام، وأقرَّها في نصوص الوحيين الشَّريفين، والَّتي تضمن العيش بسلام بين بني الإنسان، دون تمييز بسبب من الأسباب.

لقد أذهب هذا المخلوق الصَّغير كلَّ ادِّعاءات التَّميُّز والتَّفرُّد، وزلزل العروش، وحرَّك الجيوش.

إنَّنا والفيروس لفي حال عجيب!

لقد أعلن هذا المخلوق الضَّئيل ضعفنا، وكشف عجزنا، وفضح فساد تصوُّراتنا، وتفكيرنا، لقد أظهر كثيرًا من المخاوف الَّتي يسترها المتغطرسون ممَّن يدَّعون القوَّة.

وضعنا هذا الفيروس أمام امتحان رهيب، وأرجو أن ننجح فيه أفرادًا ومؤسَّسات، فالكثيرون منَّا لم يفهموا دورهم الحقيقي في الحياة فعاشوا لأنفسهم، ولم يدُر بخلدهم وجود أزمة تحتاج إلى إدارة لا مكان فيها للخوف أو الفزع، ولا وجود فيها للأنانية وحبِّ الذَّات، وبهذا يقول الرَّسول الكريم –صلَّى الله عليه وسلَّم- في حديث السَّفينة الَّتي إن غرقت غرق مَن فيها جميعا أعلاها وأسفلها، وإن نجتْ نجا مَن فيها جميعًا أعلاها وأسفلها.

لقد صدم هذا الفيروس العالم بدُوله وجيوشه ومؤسَّساته وعلمائه ومؤمنيه، وكانت الصَّدمة قاسية، فكثير من النَّاس لم يتدرَّبوا على إدارة الأزمة، ففرُّوا من المسئولية، ووضعوا رؤوسهم في الرِّمال كالنَّعام –إن صحَّ أنَّ النَّعام يضع رأسه خوفًا وهلعًا-.

وكثير من النَّاس فرَّ خوفًا أو جهلًا أو عنتريَّة كاذبة، فأغلق عقله وألغى تفكيره، وكثير لجأ إلى الإيمان يختبئ خلفه، فردَّ الأمر لله سبحانه وتعالى، لكنَّ الإيمان الصَّادق يكشف الأدعياء.

وبعضهم ربط بين الفيروس وبين المعاصي، وبعض النَّاس علَّق الأمر في رقبة الإمكانيَّات والمؤسَّسات، وبعض النَّاس أقنع نفسه بتفسير المؤامرة! وما أكثر حيل الهروب!

وحتَّى لا يفهم كلامي على غير معناه، أو يحمِّله البعض ما لا يحتمله، فأنا بداية أومن بالله -سبحانه وتعالى- إلهًا خالقًا عظيمًا، خلق هذا الكون، ودبَّر كلَّ ما فيه، وأنَّه -سبحانه- هو الوهَّاب، والرَّزَّاق، والنَّافع الضَّار، وأنَّه –سبحانه يعلم ما كان، وما هو كائن، وما سوف يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، أحاط بكلِّ شيء علمًا، وأحصى كلَّ شيء عددًا.

لكنِّي أومن –أيضًا- أنَّ الله الرَّحمن الرَّحيم خلق لنا عقولًا، وأوجدنا في الأرض بعد أن هيَّأ لنا فيها أسباب الحياة، وسخَّرها، وذلَّلها، وخاطبنا بشرعه فيها، وأقام علينا الحجَّة بعد ذلك بالتَّخيير والسَّعة، فإمَّا أن نختار النَّجاح، وإمَّا أن نختار الفشل، أمَّا أن نتقدَّم تجاه الاتِّحاد الَّذي يوفِّر الطَّاقات والإمكانيَّات، وإمَّا أن نتفرَّق التَّفرُّق الَّذي يبدِّد الجهود، ويبعثر المقدَّرات.

إمَّا أن نعكف في المعامل لإجراء التَّجارب، وتخليق اللِّقاحات، والأمصال، فنغلب خوفنا، ونتغلَّب على أزمتنا، وإمَّا أن نرضى بأيِّ تفسير مخدِّر، يرفع عن كاهلنا عبء المسئوليَّة، ويبرِّر كسلنا العقليِّ وتخاذلنا العلميِّ.

إنَّ قيمة الإنسان الحقيقيَّة ليست في امتلاك الأرض وما فيها وحسب، ولكن في استخدام أدواتها المعنويَّة من دين وشرع وأخلاق وآداب وقيم توجب التَّواصل والتَّراحم وقت الأزمات، وتوجب كذلك التَّفكير المتَّزن الَّذي يعالج بحكمة ولا يفرُّ، واستخدام أدواتها الحسِّيَّة من علوم ومخترعات ومعامل وتجارب.

وبقدر مغالبة الإنسان بأدواته الَّتي خلقها الله له، لما يتعرَّض له بقدر ما تكون رتبته، وتعلو منزلته، وإلَّا فإن كثيرًا من النَّاس «... لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ»

قيمة الإنسان بقدر مغالبته لما يتعرَّض له، وثباته على إيمانه الَّذي يأمره بالعمل لينهض من كبوته، ويتغلَّب على أزماته.

ويكفي كلَّ إنسان أن يتفكَّر في قوله تعالى: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ»، وقوله: «وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ».

يا لحكمة الله!

إنَّ فيروسًا صغيرًا لا يُرى أوقف حركة العالم!

أنا أقرُّ لله القادر أنَّنا ضعفاء، وأنَّنا لسنا على قدر هذا الامتحان؛ ولذا أدعوه راجيًا أن تنجو البشريَّة من هذا الكرب بالإيمان والعلم.

اللهمَّ رحمتك بالنَّاس!

إعلان