إعلان

سُـــنَّةُ الابتـــلاء

عبد الله السـبع

سُـــنَّةُ الابتـــلاء

06:09 م الأحد 19 يناير 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بقلم - عبد الله السـبع:

هل أنا مُقَصِّرٌ أم مُبتلًى؟! وهل ما نَزَلَ بي من سُوءٍ: عقابٌ أم اختبارٌ؟!

كثيرًا ما يَرِدُ هذان السؤالان على ذِهنِ بعضِ الناس، عندما يتعرَّضون لابتلاءٍ في الدُّنيا؛ ولكنَّ أكثرَهم في الغالبِ لا يُحسِنون الإجابة عنهما!

فبعضُ الناسِ يَحْمِلُ تقصيرَه وتَوَاكُّلَه.. على قَدَرِ الله تعالى؛ ويُكثِر من السَخَطِ على حظِّهِ العاثر!! فتسوء بذلك علاقتَه بخالِقه ورازقِه!

وفي أحيانٍ أخرى؛ يُحَمِّلُ العبدُ نفسَه تَبِعَةَ ما أَوْقَعَه الله به من ابتلاءٍ؛ اختبارًا له - لحكمةٍ يَعْلَمُها الله - فيَقسو على نفسِه، ويتهِمها بالتقصير، ويُصِر على أن الابتلاءَ.. جاء عقابًا له من الله!!

وفي هذا الاعتقاد أيضًا ما فيه من جُحُودٍ في حقِّ اللهِ، الرحمنِ الرحيم، الغفورِ الحلِيم، قابِلِ التَوبِ، وسبحانه هو القائلُ: {مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ}.. [النساء: 147]

ونَحْسَبُ أنَّ الإجابةَ يسيرة؛ فالتقصيرُ واضحٌ، والابتلاءُ واضحٌ، والفَرْقُ بينَهما كبيرٌ. ودينُنا الإسلامُ؛ أشارَ بوضوحٍ إلى الفَرْقِ بين التقصير والابتلاء.

فطالِبُ العلم - مثلاً - إذا أهملَ دروسَه، وانشغلَ عنها باللهو؛ رَسَب في الامتحان بلا شك.. وعليه أن يتحمَّلَ سُوءَ العواقبِ، التي يجرُّها هذا التقصيرُ من جانبِه، ولا يحِقُّ له أبدًا أن يتهمَّ القَدَرَ؛ ويُحَمِّلَه ما حلَّ به!

فما دَخْلُ القَدَرِ هنا؟! فالأمْرُ - بكلِّ وضوح - عبارةٌ عن أسبابٍ ونتائج، كما يُنبِّهُنا الله تعالى لذلك في قوله عزَّ من قائل: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}.. [الإسراء: 7] وقولِه سبحانه: {وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ}.. [النساء: 79 ]

ومِثْلُ هذا يُقَالُ في كلِّ مواقف الحياة؛ فمَنِ اتخذ أسبابَ ما يُرِيدُ أن يصِلَ إليه؛ وَصَلَ غالبًا بمشيئةِ الله.. والعكسُ صحيح.

لكنْ على الجانبِ الآخر، ولحِكَمٍ عديدة يَعلَمُها الله عَزَّ وجل؛ فإنه قد قَضَى على مَنْ شاء من عبادِه بالابتلاء. وذلك بعد أن يتوكَّلَ العبدُ على الله ويَبذُلَ الجُهْدَ، ولا يُقصِّرَ في أمرٍ بما يتطلَّبُه ذلك من إعدادٍ واحتياط؛ تاركًا النتائجَ على الله. يقولُ جلَّ وعَلا: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ}.. [البقرة: 155]

وقال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «.. فيُبتَلَى الرجلُ على قَدْرِ دِينِه؛ فإن كان في دينِه صُلبًا؛ اشتدَّ بلاؤه، وإن كان في دينِه رِقَّةٌ؛ ابتُلِيَ على قَدْرِ دينِه».. [رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح]

وتُلخِّصُ العبارةُ التالية؛ لفضيلةِ الشيخِ محمد الغزالي.. الأمْرَ في رأيي؛ حيث قالَ رحِمَه الله: "قد يَقْرَعُ الإنسانُ سِنَّ الندمِ على تفريطِه، وقد يستوجِبُ أقسَى اللَّومِ على تقصيرِه. أما أن يَطْـلُعَ القَدَرُ عليه بما لا دخلَ له فيه؛ فهو ما لا مَكَانَ فيه لندمٍ، أو مَلامٍ.. وبالتالي: لا مكانَ فيه لقلقٍ أو رِيبَة".

إذن؛ الابتلاءُ ممَّا قضتْ به سُنَّةُ الله في الحياة؛ لكنْ هناك فرقٌ بين الابتلاء الذي يستهدِفُ التمحيصَ والاختبار، وبين سُوءِ العواقب بسببِ الأخطاء.

وكما تكونُ سُنَّةُ اللهِ في ابتلاءِ عبادِه بأنواعِ الابتلاءات الكثيرة: لتمحيصِ النفوس، واختبارِ القوَّةِ من الضَعْفِ، والصَّبْرِ من الجَزَع.. فإنَّها من جهةٍ أخرى؛ تكونُ للتنبيهِ من التقصيرِ في بعضِ الواجبات. يقولُ الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ}.. [الشورى: 30]

ومع يقِيننا التامِّ؛ بأن كلَّ إنسانٍ رهينٌ بما كسبتْ يداه.. فإن المقياسَ الفارِقَ بين الابتلاءِ بسببِ تقصيرِنا، وابتلاءِ التمحيص والاختبارِ من ربِّنا سبحانه، هو: "الأخذُ بالأسباب". فعندما نَأْخُذُ بالأسبابِ كاملةً ثم يأتينا الابتلاءُ.. عندها يكونُ: اختبارًا، وتمحِيصًا، وحَطًّا من الخَطَايا، ورفْعًا في الدرجات. وعندما نُقَصِّرُ في أعمالِنا، ونَقْتَرِفُ الذنوبَ والمعاصيَ.. عندها يكونُ الابتلاءُ: عِقَابًا، وسُوءَ عاقبةٍ، وتطهيرًا.

أيضًا نُحِبُّ أن نُشيرَ إلى أن الابتلاءَ ليس فَقَط بالشرِّ؛ بل هو بالخيرِ أيضًا. ويؤكِّدُ ذلك قولُ ربِّنا الله: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}.. [الأنبياء: 35]

والابتلاءُ سُنَّةٌ ثابتةٌ لا تتغيرُ ولا تتبدَّلُ، وما من إنسانٍ على وجهِ الأرضِ.. إلا ويُعاني من: فقرٍ، أو مَرَضٍ، أو إخفاقٍ، أو وَحْـــدَة.. أو يشكو من فواتِ شيءٍ عزيزٍ لديه؛ سَوَاء موتِ حبيب، أو ضياعِ صِحَّة.. إلى غيرِ ذلك من الابتلاءاتِ، التي سُلِّطتْ على ابنِ آدم.

وعلى المسلمِ أن يعلَمَ أنَّ الله ليس دومًا يَبتلِي ليُعَذِّبَ؛ بل قد يَبتَلِي ليصطَفِي ويُهذِّب؛ فبعضُ وخَزَاتِ الأحداثِ؛ قد تكونُ إيقاظًا للإيمانِ الغافي.. فالله يبتَلِي مَنْ يُحِبُّه من عبادِه ليُطَهِّرَه ويُقرِّبَه ويُرقِّيَه. يقولُ الله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ}.. [العنكبوت: 2]

وكما قالَ أحدُ العلماءِ: ليَعْلَمِ العبدُ أن نُزولَ البلاءِ خيرٌ للمؤمنِ من أن يُدَخَّرَ له العقابُ في الآخِرة. وكيف لا؛ وفيه تُرفَعُ درجاتُ العبدِ، وتُكفَّرُ سيئاتُه.

وفي الحديثِ الشريف يقولُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أرادَ الله بعبدِه خيرًا عجَّلَ له العقوبةَ في الدُّنيا، وإذا أرادَ بعبدِه الشرَّ أَمْسَكَ عنه بذنبِه؛ حتى يُوافِيَه به يومِ القيامة».. [رواه الترمذي، وحسَّنه الألباني]

هذا عِوضًا عما ينتظرُه في الآخرةِ من جزاءٍ؛ ففي الحديثِ الشريف: «يَودُّ أهلُ العافية يوم القيامةِ؛ حين يُعطَى أهلُ البلاءِ الثوابَ.. لو أن جلودَهم كانتْ قُرِضَتْ في الدُّنيا بالمقاريض».. [حسَّنه الألباني].

فيا أيُّها الصَّابِرُ المحتسِبُ: ألا يُرضِيك أن يكونَ لك في الجنَّةِ عِوضٌ، عما لاقيتَه في دُنياك؟!

وهذا العِوضُ بغيرِ حسابٍ.. ففي الجنَّةِ ما لا عينٌ رأتْ، ولا أُذنٌ سمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قلبِ بشرٍ!

(من كتاب "السِّــلاح السِّـري" للكاتب - الصادر في العام 2006م)

إعلان