إعلان

التجديد والدين

الدكتور محمود الهواري

التجديد والدين

09:33 م الإثنين 21 يناير 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بقلم الدكتور محمود الهواري

بين الحين والآخر يبرز للوجود مصطلح جديد تدور حوله الأحاديث، وتعقد لأجله اللقاءات، ويغيب عن كثير من المتحدثين به حقيقته، وينقسم الناس كالعادة حول هذه المفاهيم إلى فريقين مؤيد ومعارض، ويتبادلون ما يتم تبادله في مثل هذه المواقف.

ومن هذه المفاهيم التي برزت في الفترة الأخيرة حتى ملأت سماواتنا وقنواتنا وأدمغتنا تجديد الخطاب الديني.

والذي أحب أن يطمئن إليه القارئ أنَّ التَّجديدَ مشروعٌ ولا حرج فيه، بل يكادُ يكونُ تجديدُ الخطابِ الدِّينيِّ محلَّ إجماعٍ عند علماءِ المسلمين، والقولُ بَغيرِ ذلك اتهامٌ لهذا الدِّينِ بالجمودِ والقُصورِ وعدمِ مسايرةِ العصرِ، فما يعيشُه النَّاسُ اليومَ وما يفكِّرون فيه، يختلفُ عمَّا عاشَه النَّاسُ بالأمسِ وما فكَّروا فيه.

وإذا كانت مهمَّةُ الفقهِ الأساسيَّةُ أنْ يحكم فيما يواجهه الناس خلال رحلة الحياةِ المتجدِّدةِ، والأحداث المتغيرة، فليس يعني هذا أنْ تتغيَّرَ الأحكامُ الثابتةُ، فحين يعملُ التَّجديدُ على الانفتاحِ على العصرِ، ودراسة مشكلاته فإنَّه يعملُ كذلك على الحفاظِ على الثَّوابتِ والأصولِ الَّتي لا غِنى للنَّاسِ عنها، أو بتعبيرٍ آخر: نعيشُ عصرَنا ولا ننسى أصلَنا.

وإذا كان الله تعالى قد أخبرَ أنَّه حافظٌ للدِّينِ بقوله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) الحجر:9، فلا يعني هذا الحفظ أن نجمد على حال لا نفارقه إلى غيره، وإنما هو حفظ يقابل ُالوقائعَ الإنسانيَّةَ المتغيِّرةَ.

ومن أدلَّةِ مشروعية التَّجديد قول النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا».

وقد ذكرَ أهلُ العلمِ المقصودَ بالتَّجديدِ الواردِ في الحديثِ في عدةِ أقوالٍ متقاربةِ المعاني، تدورُ على معنى حفظِ الدِّينِ على النَّحوِ الذي رضيه الله تعالى، سواء كانَ من حيثُ حفظِ اللَّفظِ أو حفظِ المعنى أو حفظِ العملِ.

وهذا من فضل اللهِ تعالى على الأمَّةِ؛ حيثُ لا تمرُّ عليها مائةُ سنةٍ من عمرِها إلا ويقيِّضُ الله تعالى لها من يجدِّدُ دينَها، فيعيدُه إلى ما كان عليه، فلا يمضي قرنٌ إلا وفيه مجدِّدٌ.

ولا يُلزِمُ الحديث بأن يكونَ المجدِّدُ شخصًا واحدًا، كما أن جلالَ المهمَّةِ وخطرَها يحتاجُ إلى وجودِ عددٍ يقومون بها، ولفظُ (مَنْ) الواردُ في الحديثِ صالحٌ لذلك؛ إذ أنَّه يتناولُ الفردَ كما يتناولُ الجماعةَ من النَّاسِ، وفي ظلِّ توسُّعِ الأمَّةِ واتِّساعِ رقعتِها، والانفتاحِ العالميِّ، والخللِ الموجودِ في واقعِها فإنَّ هذا الواقعَ يفرضُ ألَّا يشتغلَ بهذا العملِ التَّجديديِّ فردٌ واحدٌ، بل مجموعاتٌ تتكاملُ فيما بينها، وتؤدِّي أدوارًا مختلفةً من خلالِ تخصصاتٍ علميَّةٍ متباينةٍ وحقولٍ معرفيَّةٍ متنوِّعةٍ، لا تعارض في جملتها نصوص الوحيين القرآن والسنة.

ويفهم من عمومية كلمة "دينها" الواردة في الحديث أن أي جانب من جوانب الدين يصيبه ضعف أو ذبول أو غربة فإنه يحتاج إلى تجديد سواء في الاعتقاداتِ، أو العباداتِ، أو الشرعيَّاتِ، أو السلوكيَّاتِ، ونحو ذلك. وبذلك يحفظُ الدِّينُ على نقائِه وينتقلُ من جيلٍ إلى جيلٍ وهو موفورٌ كاملٌ غير منقوصٍ.

ومن أدلة مشروعية التَّجديدِ قول النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَخْلَقُ فِي جَوْفِ أَحَدِكُمْ كَمَا يَخْلَقُ الثَّوْبُ الْخَلِقُ، فَاسْأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُجَدِّدَ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِكُمْ».

وضعفُ الدَّينِ وذبولُه قد يكونُ من عندِ الأفرادِ بالمعاصي والسيِّئاتِ، وقد يكونُ بسببِ سوء الفهم والتطبيق، لذا احتاجَ الإنسانُ إلى أن يسألَ اللهَ تجديدَ دينِه سواء من عندِ نفسِه أو من عند غيره.

وإذا كانَ الإيمانُ يخلقُ في جوفِ آحادِ النَّاسِ فيحتاجُ إلى تجديدٍ، فيجدّد المعصيةَ إلى طاعةٍ، والكسلَ إلى عملٍ، والخمولَ إلى نشاطٍ، وهكذا، فلا شكَّ أنَّه يخلقُ كذلك في أجوافِ المجتمعاتِ والشُّعوبِ فيحتاجُ إلى تجديدٍ، من تأخُّرٍ إلى تقدُّمٍ ومن تبعيةٍ إلى قيادةٍ ومن استهلاكٍ إلى إنتاجٍ.

وما سقناه هنا هو ما يسمِّيه العلماء الدَّليلَ النَّقليَّ، وهو يثبت أن التَّجديدَ ضرورةٌ شرعيَّةٌ وحياتيَّةٌ، لا تتناقض مع أصولِ الدينِ ولا ثوابتِه.

أمَّا دليلُ العقلِ فهو: أنَّنا إذا سلَّمْنَا أنَّ رسالةَ الإسلامِ رسالةٌ عامّةٌ للنَّاسِ جميعًا، وأنَّها باقيةٌ صالحةٌ لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، وأنَّ النُّصوصَ محدودةٌ، والحادثاتِ غير محدودةٍ، فلا مفرَّ من إقرارِ فريضةِ التَّجديدِ الَّذي يتحتَّمُ لمعالجةِ ما يستجدُّ في حياة النَّاسِ.

ونحن لم نعد في فسحة من الأمر لنختار التجديد أو نرفضه، فالأمَّة إذا لم تؤمنْ بالتَّجديدِ وتسلك طبقًا لما يفرضُه كمفهومٍ له معالمُ واضحةٌ، فلن يتبقى لها إلا أحدُ أمرين: إما أن تجمد حياتها، ويتوقف عطاؤها عند حدٍّ معيَّنٍ دون تجاوزه، ودون تفاعلٍ مع الحركة الثائرة الَّتي تكتنفُ الحياة من كلِّ جهةٍ. وإما أن تذوب في غيرها، تحت ضغط المستجدات المتلاحقة التي يمكن أن تطمس هوية الأمة وتاريخها وحضارتها.

إنَّ مسلمَّةَ التَّجديدِ على أقلِّ تقديرٍ إحدى مقوماتِ الإسلام الذاتيَّةِ التي إذا تحقَّقت كان الإسلامُ نظامًا فاعلًا في دنيا النَّاسِ، وإن تجمَّدتْ تجمَّدَ وانسحبَ من مسرحِ الحياةِ، واُختزلَ في طقوسٍ تؤدَّى في المساجدِ أو المقابرِ، أو تمارسُ على استحياءٍ في بعضِ المناسباتِ.

فلسنا نخاف من التجديد، أو ندعي أنه بدعة مرفوضة كما يظن البعض. غاية الأمر أن التجديد له أهله، وله شرائطه، وله قواعده، والخوف أن يتناول تجديد الدين من لا يحسن قراءة أصوله فيستحيل تجديده إلى تبديد وتضييع، ويرحم الله ابن حجر الذي قال: إذا تكلم الرجل في غير فنه أتى بهذه العجائب.

إعلان