إعلان

أجراس الخطر (التَّحرش نموذجًا)

الشيخ محمود الهواري

أجراس الخطر (التَّحرش نموذجًا)

09:28 م السبت 11 يناير 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

مقال- بقلم: د-محمود الهواري

كثير من أحداث الحياة لو تأمَّلها العقلاءُ والمنصفون لعرفوا أنها أجراس تنذر بالخطر الدَّاهم على المجتمعات والشُّعوب، وعلى منظومة الأخلاق والقيم.

وفي ظلِّ ما نسمع بين الحين والآخر من وقائع اعتداء على الفضيلة، وبُعد عن المنهج الأخلاقيّ الَّذي تميَّزت به شريعتُنا وقيمُنا، فيما يسمَّى بـــ«التَّحرُّش» أجدني مدفوعًا –وبقوَّة- إلى أن أتذاكر مع القرَّاء الكرام جانبا مهمًّا من الجوانب التعبُّديَّة في شريعتِنا الغرَّاء، وهو في الوقت نفسه جانب مهمٌّ في منظومتِنا الأخلاقيَّة وتاريخنا الحضاريّ.

وألتمس من مقالي –مع هذا- تصحيحًا لفكرة «العبوديَّة» عند البعض ممَّن اختصرها في ركعات تؤدَّى في المساجد، دون أن يكون لها أثر في تفاصيل الحياة.

وإذا كان من العلل والأمراض ما يعرف بــ«انفصام الشَّخصيَّة» فإنَّ من العلل أيضًا ما يمكن أن نسميَه «الانفصام الدِّيني»، وهو أن يكون واقعُ المتديِّن وسلوكُه بعيدًا عن نور الوحي الَّذي يدَّعي انتسابه إليه!

والَّذي ينبغي أن يصحَّ في الأذهان أنَّ الدِّين يشمل الحياة كلَّها: عقيدةً وعبادةً ومعاملةً وأخلاقًا؛ فإذا لم يظهر للتَّديُّن أثرٌ في جوانب الحياة إعمارًا وصيانة وتجميلا فتديُّن أعرج!

وأمَّا التَّحرش الَّذي ينذر بالخطر فلا يخفى على القارئ الكريم أنَّ الإسلام قد أولى عنايته ورعايته مقاصد عالية، وأنَّ الشَّريعة السَّمحة بما اعتمدت عليه من وحيٍ: قرآنًا وسنَّة، وبما أنتجته من أحكام تدور بين الحلِّ والحرمة قد حافظت على كرامة الإنسان وما يتعلَّق به من دين ونفس وعرض وعقل ومال، فيما يعرف بــ«المقاصد الكليَّة»، وأعلت من قدر وقيمة هذه المقاصد حتَّى أوجبت الوسائل الَّتي تؤدِّي للحفاظ عليها.

وانطلاقًا من هذا فقد جعلَت الشَّريعةُ التَّعدِّي على الحرمات والأعراض وانتهاكَها بأيِّ صورة من الصُّور من كبائر المخالفات الشَّرعيَّة، فضلا عن كونها من الأمراض الأخلاقيَّة، والآفات الحضاريَّة، وقد عظَّم النَّبيُّ –صلَّى الله عليه وسلَّم- من حرمة الأعراض فسأل النَّاس يوم النَّحر فقال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟» قالوا: يوم حرام، قال: «فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟» قالوا: بلد حرام، قال: «فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟» قالوا: شهر حرام، قال: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا»، فأعادها مرارًا.

وجريمة التُّحرش إحدى صور الاعتداء على كرامة الإنسان وعرضه ونفسه وعقله.

وممَّا ينبغي أن يصحَّ في الأذهان –كذلك- أنَّ الله –سبحانه وتعالى- {... يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}.. [الملك: 14]، ويعلم أنَّه: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ...}.. [آل عمران: 14]، ولكنَّ شرعه لم ينظر إلى غريزة «حبّ الشَّهوات» على أنّها شرٌّ محض، ولم يتعامل معها بالتَّسامي أو بالكبت والحرمان، وإنَّما هذَّبها وندب إلى إشباعها بطريق العفاف، وحرَّم إثارتها وتأجيجها في النُّفوس والعقول بما يناقض العفاف المشروع؛ ولذا سنَّ من التَّشريع ما يضمن للمجتمع «العفة العامَّة».

ومن ذلك أنَّه حرَّم الزِّنا، وبَغَّضَه وبَشَّعَه في نفوس النَّاس، ولم يَنْهَ عن الوقوع فيه فقط، وإنَّما نهى عن القرب منه، فقال الشَّارع الحكيم: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا}.. [الإسراء: 32].

وحرَّم الخلوة الَّتي قد تؤدِّي إليه، فقال النَّبيُّ –صلَّى الله عليه وسلَّم-: «ألا لا يخلُوَنَّ رجلٌ بامرأة إلا كان ثالثهما الشَّيطان».

وحرَّم الكلمة اللَّينة الَّتي تُطمِع مرضى القلوب، فقال تعالى: {...فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا}.. [الأحزاب: 32].

وحرَّم النَّظرة الَّتي تكون بريدًا إليه فأمر بالغضِّ الرجال وناداهم بوصف الإيمان الَّذي يوقظ قلوبهم ويدعوهم للاستجابة لأمره، فقال: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ...} [سورة النور: 30]، وأمر بها المؤمنات وناداهنَّ بوصف الإيمان الَّذي يوقظ قلوبهنَّ ويدعوهنَّ للاستجابة لأمره، فقال: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ ...}.. [سورة النور:31].

وشدَّد النَّكير على من أطلق بصره إلى الغاديات الرَّائحات، فجعله في رتبة مرتكب الكبيرة، قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: « الْعَيْنُ تَزْنِي وَزِنَاهَا النَّظَرُ»!

فإذا لم يدرك العاقل مراد الشَّارع من أوامره ونواهيه، وضعفت نفسه فاستجاب لشهوته في غير شرع فقد استحقَّ بذلك أن تشدَّد عليه العقوبة الدُّنيويَّة؛ ولذا أمر الله بجلد الزناة فقال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ}.. [سورة النور: 2]، مع المبالغة في التنكيل بهم {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ}.. [سورة النور: 2]. والتشهير بهم: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.. [سورة النور: 2].

وإذا كان الكلام السَّابق منصرفًا إلى الزِّنا فإنَّ التَّحرش والزِّنى من باب واحد؛ فكلاهما اعتداء على العرض والكرامة وإهانة لنفس بريئة بما لا يحلُّه شرع، ولا يجيزه عرف، ولا يقرُّه عقل.

وأدوات التَّحرش كلُّها محرَّمة: سواء كانت كلمة أو نظرة أو لمسة!

فأمَّا التَّحرش اللَّفظي فَخدش للحياء، وفُحش منهيٌّ عنه، ومعارضة صريحة لما نهى عنه الشَّارع الحكيم، وصاحبه يبغضه الله كما أعلن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «إِنَّ اللهَ لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيَّ»، بل لو تصوَّر المتحرِّش بكلمة ما تفعل فيه كلمته الفاحشة لكفَّ؛ إذ أنَّه يزيد أهل النَّار عذابا فوق عذابهم، والسَّبب ما يسوقه من كلام يستملحه، يقول رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: «أَرْبَعَةٌ يُؤْذُونَ أَهْلَ النَّارِ عَلَى مَا بِهِمْ مِنَ الْأَذَى، يَسْعَوْنَ بَيْنَ الْحَمِيمِ وَالْجَحِيمِ، يَدْعُونَ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ... وَرَجُلٌ يَسِيلُ فُوهُ قَيْحًا وَدَمًا فَيُقَالُ لَهُ: مَا بَالُ الْأَبْعَدِ قَدْ آذَانَا عَلَى مَا بِنَا مِنَ الْأَذَى؟ فَيَقُولُ: إِنَّ الْأَبْعَدَ كَانَ يَنْظُرُ إِلَى كُلِّ كَلِمَةٍ قَذِعَةٍ خَبِيثَةٍ فَيَسْتَلِذُّهَا، كَمَا يَسْتَلِذُّ الرَّفَثَ».

وأما النظرة فقد سبق الكلام فيها، ويكفي أن يعرف من يحدِّق بالغاديات الرَّائحات أنَّه يصوِّب سهاما مسمومة قد تصيب في مقتل!

وأما امتداد الأيدي الآثمة فهذا ما لا يقبل أبدا، ولقد ورد من النَّكير الشَّديد على مرتكبه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.

ولقد زاد التَّحرُّش شناعة أنْ عدَّه البعض شعبة من شعب النفاق مستدلًّا بما قال المفسِّرون في شرح قوله تعالى: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ...﴾، إذ قالوا: والمنافقون أصنافٌ عشرة في براءة، فالذين في قلوبهم مرض؛ صنفٌ منهم مَرِضَ من أمر النِساء، أي من تتبع العورات والتَّعرُّض لهنَّ.

إنَّ دعوة الشَّريعة لسيادة «العفَّة العامَّة»، تتجاوز عفَّة السُّلوك إلى عفَّة القلب والعقل والتَّفكير، حتَّى إنَّ الوحي لينكر أن يتحرك قلب الإنسان حبًّا لشيوع الفاحشة وانتشارها في النَّاس، يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}.. [سورة النور: 19].

وخلاصة الكلام أن التَّحرش بصوره المختلفة له أسباب عدَّة، كلُّها تدور حول الغريزة الَّتي أمر الدّين بتهذيبها لكن واقع الناس من ضعف إيمان، وضعف تربية وتوجيه، وعري هو الَّذي أثارها وهيَّجها، وهذه هي أسباب التَّحرش أو بعضها على الأقل.

ويكفي أن نذكِّر هنا بحديث النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم حين جاءه فتىً فقال: يا رسول الله ائذن لي في الزنا، فأقبل القوم فزجروه، وقالوا: مه مه! فقال له: «ادنه» - أي اقترب منى -، فدنا منه قريبا، قال: «أتحبُّه لأمك»؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: «ولا الناس يحبونه لأمهاتهم» قال: «أفتحبُّه لابنتك؟» قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك. قال: «ولا الناس يحبونه لبناتهم» قال: «أفتحبُّه لأختك؟» قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: «ولا النَّاس يحبُّونه لأخواتهم». قال: «أفتحبُّه لعمَّتك؟» قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: «ولا النَّاس يحبونه لعمَّاتهم» قال: «أفتحبُّه لخالتك؟» قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: «ولا النَّاس يحبُّونه لخالاتهم»

قال - راوي الحديث - فوضع يده عليه، وقال: «اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه، وحصن فرجه» فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء.

ونحن نسأل كلَّ معتدٍ كذلك: أتحبُّه لأحد من أهلك؟

وندعو له أيضًا بأن يحصِّنه الله من كل سوء.

وختامًا فإنَّ أي علاج جزئي للتَّحرش هو بمثابة مسكِّن للعَرَض دون شفاء المرض.

ونحن نحتاج إلى معالجة شاملة، تتكوَّن من إعلاء الوازع الإيمانيّ، ووجود الرادع القانونيّ، وتوفير العلاج النَّفسيّ، وتتوَّج بالالتزام الأخلاقيّ.

فيا ليت قومي يعلمون!

إعلان